مؤشرات عديدة برزت في الأسابيع الماضية داخل القضاء اللبنانيّ، تشي بأن السلطة القضائية اللبنانيّة تُحاول، وربما للمرة الأولى، التحرّر من القيود التي فُرضت عليها منذ عقودٍ. فالتدخلات السياسيّة طوّقت قصور العدل في لبنان، وحوّلت "سقف القانون" إلى حلمٍ مؤجل لكل مواطن لبنانيّ."دولة القانون"تساؤلات كثيرة تُطرح بين اللبنانييّن عمومًا وأصحاب الحق خصوصًا، حول مدى تأثير الأحداث الأخيرة في لبنان على السلطة القضائية. المقصود هنا، الحرب الإسرائيليّة على لبنان التي انتهت بتفكيك حزب الله عسكريًا وتلاشي قدراته، (من خلال اغتيال كبار قادته ومن ضمنهم الأمين العام السيد حسن نصرلله، تدمير الضاحية الجنوبيّة وجنوب لبنان والبقاع، تفجير الأنفاق، استهداف مخازن أسلحة الحزب وغيرها الكثير، إلى جانب قطع "الشريان السوري" الذي يعتبر من أهم خطوط إمداد الحزب بالسلاح...) وهل سينعكس ذلك على السلطة القضائية؟ يأتي الجواب من داخل قصور العدل: نعم.
مرجع قضائي رفيع يختصر لـ"المدن" عنوان المرحلة المقبلة في لبنان بكلمتين: "دولة القانون". معتبرًا أن القانون اللبنانيّ سيطبق على جميع اللبنانيين من دون أي استثناء. وهناك الكثير من العوامل التي تؤكد بأن المرحلة الأولى صعبة ولكننا نحاول اجتيازها ولو بخطوات بطيئة.
للتوضيح أكثر، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني الماضي، خلال جلسة مجلس النواب التشريعية، حاولت السلطة السياسيّة تمرير بعض المواد بطريقة "لاقانونيّة"، وهي التمديد للمدعي العام المالي، علي إبراهيم، ولأعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتهية ولايتهم أصلًا. سخطٌ عارم حلّ على السلطة القضائية التي اعترضت على هذا الإجراء، وتقدّم مجموعة من النواب بطعن أمام المجلس الدستوري، وكانت المفاجأة بالمجلس الدستوري الذي وافق على وقف مفعول القانون المتعلق بالتمديد.
وعلّقت مراجع قضائية لـ"المدن" على هذا القرار واصفةً إياه بالـ"ايجابيّ". فالقانون طُبّق ومنع المجلس الدستوري من تمرير بنود بطرق ملتوية.
المُتابع للملفات القضائية باستمرار، يدرك جيدًا أن السلطة السياسية فرضت سيطرتها على القضاء اللبناني لمنافعها الشخصيّة. و"ظِلّ" وفيق صفا كان حاضرًا في زوايا قصور العدل، في كل القضايا التي تهمّ حزب الله أمنيًا ومنها قضية المرفأ، وبأساليبه المُعتادة، كان يطلب من بعض القضاة مُبتغاه، وسرعان ما تتحقق مطالبه. والحال، غاب طيف صفا عن العدلية خلال وبعد الحرب الإسرائيليّة على لبنان، إذ لم يعد حزب الله منهمكًا في قضاياه كالسابق.
مصادر قضائية تشرح لـ"المدن" حساسيّة هذه المرحلة، وتقول: "من الممكن استعادة هيبة القضاء وتطبيق القانون، لكن هذا الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت"، ويتابع: "النفضة القضائية آتية، وستتوج بعد نجاح السلطة السياسية بانتخاب رئيس للجمهورية، والتشكيلات القضائية الجديدة ستكون كفيلة بنقل لبنان لمرحلة جديدة".القضايا المحظورة إلى العلنويتضح أخيرًا، أن الحديث صار مُتاحًا عن القضايا الحساسة التي كان النقاش فيها ممنوعًا. وكان لافتًا قرار القاضية كارلا شواح بإغلاق مستودع تابع للجامعة اللبنانيّة في منطقة المصيطبة بعد العثور فيه على أسلحة تابعة لحزب الله، واللافت أيضًا كان قرار القضاة الذين طلبوا من أمن الدولة مصادرة هذه الصناديق وهو أمر لم يكن معتاداً سابقًا.
ما ورد أعلاه، يدلّ على أنه في المرحلة المقبلة ستُفتح كل الملفات المحظورة. وعلى رأسها قضية المرفأ، التي قرر البيطار استئناف تحقيقاته في منتصف شهر كانون الثاني العام 2025. وكل قضايا الفساد وغيرها. يذكر في السياق، قضية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، حيث حاول الثنائي الشيعي والمراجع الدينيّة المسيحيّة التدخل في هذه القضية والضغط على القضاة لترك الحاكم السابق، لكن القاضي بلال حلاوي يرفض إخلاء سبيل سلامة ويصرّ على انهاء ملّفه تمهيدًا لاصدار القرار الاتهامي.
مصادر قضائية أوضحت لـ"المدن" أن التاسع من كانون الثاني سيكون تاريخًا مهمًا للقضاء اللبنانيّ، فالتشكيلات القضائية ستنعكس ايجابا على القضاء وتُحرره. وأضافت المصادر إلى أن الهدف الأساسي اليوم هو تطبيق القانون وتحقيق استقلاليّة القضاء، ومنع السلطة السياسية من التدخل في الملفات، لذلك تستوجب هذه المرحلة الوعي والهدوء والتريث، وعدم استفزاز أي طرف آخر".دعم دوليّوما لا يجب تجاهله، هي العيون الدولية المصوبة على السلطتين السياسية والقضائية بشكل أساسيّ. وتتمثل بزيارات مستمرة لوفود أوروبية لدعم لبنان في مكافحة الفساد وملاحقة المتهمين، والاطلاع على حسن سير تطبيق العدالة في لبنان، ما يعني أنه لم يعد متاحًا أمام القضاة اليوم التنصل من مسؤولياتهم. يشار إلى أنه في الخامس عشر من كانون الأول الجاري، كرّمت وزارة الخارجية الأميركية 10 روّاد في مكافحة الفساد من مختلف أنحاء العالم كجزء من إلتزام في مكافحة الفساد، وكُرّم القاضي اللبناني كارل عيراني وهو قاض في مجلس شورى الدولة (وأول قاض لبناني يُكرّم أميركيًا)، والذي كان ممثلًا لوزارة الداخلية والبلديات ضمن اللجنة المعنية بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، وذلك نيابةً عن القرارات القضائية التي اتخذها سابقًا وأهمها: "إلزام وزارة المال تسليم المعلومات والمستندات المتوافرة لديها المتعلقة بمراحل تنفيذ عقد التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان مع شركة ألفاريس آند مارسال (هذا الأمر ساهم في توقيف سلامة)، كما أنه فرض الغرامات المالية على وزراء عدّة ومن بينهم: وزير الطاقة وليد فياض، ووزير الداخلية بسام المولوي، وأبطل قرار المولوي الذي يقضي بعدم تبليغ الأوراق القضائية الصادرة عن المحقق العدلي طارق البيطار. وقرار عيراني يؤثر بشكل ايجابيّ على قضية المرفأ، ما يعني أنه وبعد عودة البيطار إلى ملفه وتحديد جلسات استجواب المدعى عليهم، في حال رفض الأجهزة الأمنية تبليغ المدعى عليهم، قد يؤدي ذلك إلى زج العناصر الأمنية في السجن.
إذن، مرحلة دقيقة وايجابية تنتظر القضاء اللبناني. فهل ستنجح السلطة القضائية في التحرر من القيود؟