ما إن طوت سوريا صفحة نظام بشار الأسد الذي هرب من البلاد دون إعلان تنحي أو نقل للسلطة، تحولت أنظار مختلف المكونات السورية وأنظار الفاعلين الدوليين باتجاه عملية الانتقال السياسي، حيث لا يُخفِ الكثيرون مخاوفهم من استئثار هيئة تحرير الشام وحلفائها، الذين حسموا مصير النظام عسكرياً بالسلطة، على الرغم من كل التطمينات التي تصدر عن الهيئة بأنها ترغب بتسهيل مشاركة الجميع في الحياة السياسية، وعدم إقصاء أي مكون.
في الحديث عن الانتقال السياسي ومستقبل نظام الحكم في سوريا، تبرز ثلاث مطبات في الطريق، ومن غير الواضح ما إذا كانت هناك قدرة على تجاوزها في المدى المنظور، والمطب الأول، هو المرجعية التي سيتم الاستناد إليها في عملية الانتقال السياسي، والثاني، متعلق برفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، أما الثالث فهو مصير قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذي لا يزال يسيطر على غالبية حقول النفط شمال شرق سوريا، ويحظى بغطاء سياسي أميركي.
الخلافات حول القرار2254
يتمسك مجلس الأمن بأن يكون القرار 2254 هو المرجعية التي يجب أن تستند عليها العملية السياسية في سوريا، الذي ينص على إجراء عملية سياسية بتيسير من الأمم المتحدة تشميل الجميع، وتحديد جدول زمني لصياغة دستور جديد ثم تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهراً من تاريخ إقرار الدستور.
أحمد الشرع المتصدر للإدارة الجديدة في سوريا طالب بدوره المبعوث الأممي غير بيدرسون خلال اللقاء معه منتصف كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بإجراء تعديلات على القرار المذكور، مراعاة للتطورات التي طرأت على الأرض، حيث تمت صياغة هذا القرار في وقت كانت سوريا تعيش الصراع بين النظام والمعارضة، وهو أمر لم يعد موجوداً الآن بعد سقوط النظام بعملية عسكرية.
المعارضة السورية السياسية خصوصاً هيئة التفاوض بمختلف مكوناتها، هي الأخرى تميل إلى إجراء عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة ووفق القرار 2254، وفيما يبدو أن هذا الخيار الوحيد الذي يتيح لها المشاركة في مستقبل البلاد السياسي فهي عولت طيلة السنوات الماضية على الموقف الدولي ولا تمتلك بعداً شعبياً داخل سوريا.
المعلومات في أوساط الإدارة الجديدة أو ما يسمى بحكومة "تصريف الأعمال"، تشير إلى الإعداد لإطلاق مؤتمر وطني سوري جامع، مع إعلان دستوري ينهي العمل بالدستور القديم، في خطوة تهدف إلى رسم معالم المرحلة الانتقالية بصورة مختلفة عن المحددات التي يتضمنها القرار الأممي الخاص بسوريا.
مصير قسد
وفقاً للمعلومات، فإن الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري حاليا (تركيا – الولايات المتحدة – روسيا)، متوافقون على ضرورة اشتراك المكون الكردي في المرحلة الانتقالية، لكن لا يوجد تصور واضح حول الكيفية حتى اللحظة، حيث يعتبر تنظيم قسد الذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني، هو أقوى مكون كردي في ظل إقصائه لباقي التكتلات وعلى رأسها المجلس الوطني الكردي الذي عانى من التضييق على نشاطه في المحافظات السورية التي يقطنها الكرد.
يدور الحديث حالياً عن استيعاب مختلف مكونات الشعب السوري من خلال إقرار لا مركزية إدارية وليس سياسية، مما يتيح إدارة محلية بهوامش مرتفعة، بالمقابل تتولى السلطة المركزية الأمن والدفاع عن البلاد والسياسة الخارجية.
عموماً، يبدو أن خيارات قسد تضيق مع الوقت في ظل بوادر التفاهمات الدولية حول الملف السوري، خصوصاً مع ظهور مؤشرات على دعم واشنطن لفكرة إدماج الأكراد في الحل السياسي السوري وعدم الموافقة على استمرارهم على شكل إقليم منفصل، فقد أكدت الخارجية الأميركية بتصريحات صدرت عنها أمس، أن الظروف التي دفعت الأكراد لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في سوريا تغيرت، كما طالبت الخارجية الألمانية أيضاً بنزع سلاح الجماعات الكردية ودمجهم ضمن الجيش الوطني السوري مستقبلاً.
من غير المؤكد ما إذا كانت قسد ستستجيب لمساعي إدماج المكون الكردي ضمن الدولة السورية، خصوصاً إذا ما توفر لها خيارات إقليمية تتيح لها المزيد من المناورة مثل الدعم الإيراني على سبيل المثال، حيث يوجد مؤشرات على رغبة إيرانية باستخدام هذه الورقة في مواجهة تركيا، سواء في العراق عن طريق الاستمرار في دعم حزب العمال الكردستاني، أو في سوريا من خلال تمرير بعض الدعم لقسد، لكن هذه الآمال قد تتبخر نهائياً في المستقبل مع استلام ترامب لإدارة البيت الأبيض رسمياً بداية عام 2025، والتوقعات بأن ينتهج سياسة متشددة ضد نفوذ إيران في العراق أيضاً.
الوضع القانون لتحرير الشام
على الرغم من إعلان وزارة الخارجية الأميركية بأن قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، لم يعد مطلوباً للجانب الأميركي، وإلغاء المكافأة المالية المخصصة لمن يدلي بمعلومات حوله إثر لقاء باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية معه، لكن لا يوجد مؤشرات على توجه واشنطن لإزالة الهيئة من قائمة المنظمات الإرهابية، كما أن تصنيفها مستمر ضمن الأمم المتحدة، وهذا ما سيثير جدلاً واسعاً في الأوساط السورية حول إشراف الهيئة على عملية الانتقال السياسي.
من الواضح أن المسألة مرتبطة بالمصالح السياسية، وهذا ما أشار له مسؤولين أميركيين تحدثوا لوسائل الإعلام عقب إنهاء ملاحقة الشرع، فقد أكدوا أن الأمر سياسي ومرتبط بالمصالح الأميركية، وبالتالي قد نكون أمام قائمة من المطالب الأميركية والغربية لتحرير الشام مقابل إزالتها من قائمة المنظمات الإرهابية، أبرزها العمل على إنهاء النفوذ الروسي في سوريا، وهذا ما تدركه موسكو أيضاً حيث بدأت بالحديث رسيماً عن مراجعة مسألة تصنيف الهيئة هي الأخرى، كما أوضح بوتين أن الفصائل التي هزمت الأسد عسكرياً تغيرت ولم تعد إرهابية والغرب يتواصل معها.
سيتعين على سوريا انتظار الإدارة الأميركية الجديدة لتتضح معالم التعامل مع الملف السوري، وما إذا كانت ستفضل تركه للأطراف الإقليمية الحليفة معها مثل تركيا، أو ستنحاز للرؤية الإسرائيلية بخصوص الملف، وبناء عليه ستمارس ضغوطات مكثفة لإعطاء دور أكبر للأقليات مع العمل على تقويض سلطة التيارات الإسلامية.