مع سقوط النظام السوري قبل أيام، بدأ عشرات الصحافيين السوريين يكشفون عن الأسماء المستعارة التي استخدموها طوال سنوات الثورة السورية، خوفاً على أنفسهم وعائلاتهم من بطش السلطة التي تعادي الصحافة المستقلة وحرية التعبير منذ عقود، لدرجة جعلت البلاد تتذيل المؤشرات الخاصة بحرية الصحافة في العالم، حتى قبل ثورة 2011.
ومنذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، أصبح التعبير عن الرأي عملاً محفوفاً بالمخاطر، وتعرض كثير من الناشطين والصحافيين ممن نادوا بإسقاط النظام وخرجوا في المظاهرات السلمية، للاعتقال أو الاختفاء القسري، ما دفع قسماً كبيراً من الباقين إلى اختيار الأسماء المستعارة كدرع يحمي حياتهم وحياة عائلاتهم، فيما فضل آخرون العمل بأسمائهم الحقيقية، مدركين أن هذا الخيار قد يكلّفهم حريتهم أو حياتهم.كاشفة أسرار صيدناياواختارت الصحافية آلاء عامر الكتابة تحت اسم "لمى شماس" أثناء عملها مع جريدة "زمان الوصل"، وأوضحت في حديث مع "المدن": "لاشك أني كنت أشعر بالخوف. كنت أستخدم برنامج بروكسي من أجل إرسال المادة الصحافية للجريدة وكنت أشعر بالرعب من أن يتم اكتشاف هويتي الحقيقية، خصوصاً أنني كنت في ذلك الوقت أعمل في جريدة "بلدنا" اليومية، والتي كانت مملوكة من قبل مجد سليمان ابن بهجت سليمان". وهو لواء سابق وسفير سابق للنظام السوري في الأردن.
وكانت عامر من أوائل الصحافيين السوريين الذين تحدوا النظام وهم داخل سوريا، للحديث عن فظائع "سجن صيدنايا العسكري"، ونشرت سلسلة مواد صحافية بعنوان "منسيون في الجحيم" بالتعاون مع المعتقل السابق دياب سرية، مؤسس "رابطة معتقلي صيدنايا" العام 2012 لصالح صحيفة "زمان الوصل" بإسمها المستعار، بما في ذلك قصة المعتقل السابق رغيد الططري الذي تحرر بعد اعتقاله لأكثر من 40 عاماً لرفضه، كطيار عسكري العام 1982، المشاركة في قصف مدينة حماة السورية. وكثير من القصص التي نشرت من السلسلة تبقى حتى اليوم مرجعاً لكثير من وسائل الإعلام، للحصول على معلومات عن هذا الموضوع الذي بقي في الظل لعقود.ورأت عامر في فقدان أرشيفها الصحافي المكتوب باسمها المستعار خسارة شخصية كبيرة، وعلقت: "هنالك إنجازات لم تُنسب لي شخصياً، ما يشعرني بالأسى. بعد فترة من وصولي إلى تركيا بدأت النشر باسمي الحقيقي، وأضع في سيرتي الذاتية تفاصيل اسمي المستعار، ولا شك أن أي صحافي يسعى لبناء اسمه المهني بشكل تراكمي، وهناك جزء هام جداً من مسيرتي الصحافية غير موجود باسم الحقيقي".وعقبت الصحافية التي التحقت بكلية الإعلام بجامعة دمشق العام 2002 أن التجربة ككل "جزء من القهر الذي أجبر جميع السوريون على التعايش معه، وكلٌ منا حاول التأقلم معه بطريقته"، مضيفة أنها ترى نفسها اليوم "من الشخصيات التي لا تعرف أن تسكت عما تراه أمراً خاطئاً".وروت عامر أصعب ذكرياتها عن تلك الفترة عندما صعد رجال الأمن في منتصف الليل إلى مكان إقامتها في دمشق، وظنت بخوف شديد أنهم اكتشفوا حقيقتها كصاحبة الاسم المستعار الذي كشف للعالم فظائع سجن صيدنايا، وأنها من اليوم ستنضم إلى المعتقلين الذين لطالما دافعت عنهم، وأكملت: "في تلك اللحظات غيرت ملابسي وقصصت أظافري، لأنهم كانوا يقتلعون الأظافر، استعداداً لاعتقالي. عشت لحظات لا يمكن وصفها وتساءلت: هل أخبر والدتي أنهم جاؤوا لاعتقالي أم لا؟".وعقبت: "كانت تلك هي الثواني الأصعب في حياتي كلها. كنت أراقبهم من عين الباب وأنا أبكي بصمت كي لا تعرف أمي. وعندما رأيتهم يعتقلون ابن الجيران، فرحت لأنني نجوت واحتقرت نفسي لأنني فرحت".وفي منفاها البعيد اليوم، لا تشعر عامر بالتفاؤل كثيراً، فلحظة سقوط النظام كانت مباغتة لكن مشهد الفوضى الإعلامية في التعامل مع ملف المعتقلين كان اعتباطياً ويستحق تغطية احترافية من الصحافيين السوريين الذين شردهم نظام الأسد، وقالت: "لست متفائلة كثيراً بسوريا المستقبل، لكن طريقنا طويل جداً، آمل أن تحصل الصحافة على صوتها الحر الذي غيبه حكم الأسد، وألا ندخل في فترة قمع ديني".كان الخوف مبرراًوالحال أن الخوف الذي أشارت له عامر ليس مجرد مبالغة، بل هو واقع دفع ثمنه كثير من الصحافيين الذين تجرؤوا على تحدي النظام بأسمائهم ووجوههم من دون خوف. وبرزت قصص مؤثرة، مثل قصة براء البوشي، الذي تخرج من كلية الإعلام العام 2010، ليتم إجباره على الالتحاق بجيش النظام، الذي كان يفرض الخدمة الالزامية على الشباب الذين يزيد عمرهم عن 18 عاماً ما يرتقي إلى جريمة بحق الإنسانية بحسب "هيومن رايتس ووتش".
وقرر براء، وآخرون في تلك الفترة الانشقاق عن الجيش السوري، ليبدأ عمله كمراسل من المناطق المحررة، وأنجز تقارير تلفزيونية ومكتوبة لوسائل إعلام عربية كسرت التعتيم الرسمي، ودفع حياته ثمناً لذلك عن عمر لم يتجاوز 23 عاماً، ليصبح ذلك مصيراً مروعاً لم يرد أحد من الصحافيين أن يطالهم.ولم يكن استخدام الأسماء المستعارة بالتالي مجرد خيار مهنين، بل وسيلة ضرورية للبقاء على قيد الحياة، علماً أن النظام السوري قتل البوشي العام 2012 رغم محاولته ضمان سلامة زميلته يارا صالح التي كانت تعمل آنذاك مراسلة حربية للتلفزيون الرسمي، وتم اختطافها أثناء تغطيتها لقصف النظام السوري لبلدة تل منين في ريف دمشق، قبل أن يطلق سراحها من قبل فصائل المعارضة وتتوقف عن العمل كمراسلة حربية. ورغم أن البوشي فقد حياته حينها، إلا أن شجاعته تبقى رمزاً لإرادة الكلمة الحرة.من التمثيل إلى الصحافةمن جهتها، اختارت الممثلة السورية الشهيرة سلافة عويشق التي غادرت سوريا العام 2012 بسبب معارضتها للنظام مع زوجها الفنان فارس الحلو، اسم سارة عودة في بداية عملها مع إذاعة "روزنة" السورية المعارضة في فرنسا.
وأوضحت عويشق بطلة مسلسل "هومي هون" الكوميدي الشهير لـ"المدن": "لم يكن العمل تحت اسم مستعار مجرد حماية، بل جزءاً من إعادة اكتشاف الذات في المجال الصحافي. كنت في بحث حثيث لإيجاد عمل في فرنسا وكان ذلك شبه مستحيل، وعندما انطلقت إذاعة روزنة في باريس كانت مشروعاً جديداً من دون أفق واضح. بعد التحاقي بالمجموعة عرفت أن الجميع يعمل فيها بأسماء مستعارة واخترت اسم سارة عودة". وحول تأثير الكتابة باسم مستعار على مسيرتها المهنية، قالت عويشق: "كانت تجربة جيدة جداً لكوني لست من اصحاب الاختصاص و كان لزاماً علي أن أطور من مهاراتي حتى أواكب المتمرسين في المهنة". وأكملت: "كانت الأحداث في سوريا تتطور بشكل متسارع وكانت مهمتنا الأساسية هي مواكبة الحدث ونقل الخبر". ولم تستسلم عويشق للظروف الجديدة التي جعلت العمل في التمثيل شبه معدوم لكثير من الفنانين الذين ثاروا على النظام وتفرقوا في المنافي، وقالت: "كانت الصحافة هي المجال الأقرب لعملي الأصلي كممثلة، وعندما أتت الفرصة، رحبت بذلك من باب التجريب واستمريت بالعمل لمدة خمس سنوات في إذاعة روزنة"، ما أكسبها كثيراً من المهارات والخبرات التي طورتها كصحافية تعمل اليوم في مجال إعداد البرامج لصالح إذاعة فرنسية.واليوم مع سقوط النظام، تتمنى عويشق: "أن تكون الصحافة سنداً للوصول إلى الدولة العصرية التي يسعى إليها السوريون، وأن تكون باباً لتطور المجتمع والنهوض به من خلال نقل الأخبار وإعداد التقارير والإشارة إلى ما يخدم المصلحة العامة وما يعطلها"، مشيرة إلى شجاعة المراسلين الميدانيين الذين نقلوا الأحداث طوال سنوات من كافة أنحاء البلاد، كنقطة مضيئة يجب تذكرها عند الحديث عن الثورة السورية ككل.سوريا تستحق صحافة حرةوالحال أن الكتابة بأسماء مستعارة لم تكن خالية من التحديات النفسية والمهنية، فالصحافي المقيم في تركيا حسن محفوض، اضطر للكتابة طوال سنوات تحت اسم "يوسف صديق" خوفاً على نفسه وعلى عائلته من الاعتقال، ووصف كيف أصبح ذلك الاسم جزءاً من هويته على مر السنين. وقال: "العمل تحت اسم مستعار لم يكن تجربة عابرة، بل أمضيت عمراً طويلاً وأنا أحمل ذلك الاسم. استغرق الأمر مني أكثر من 10 سنوات كي أكشف اسمي الحقيقي، لكني استطعت الدمج بين الاسمين كي يقترنا ببعضهما وهذا أيضاً استغرق عدة سنوات إضافية".
وحول تأثير الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد على العمل الصحافي، قال محفوض: "كنت في حالة تشرد وانتقال دائم خلال الثورة، وكان العمل لأجل الثورة هو هدفي الدائم، لذلك كنت في مواجهة مباشرة مستمرة مع النظام"، موضحاً أن أكثر اللحظات تأثيراً فيه خلال عمله الصحافي في سوريا كانت "رؤية المصابين والقتلى على باب المشفى وفي الممرات، ودمائهم تجتمع معاً وهي تسيل من كل مكان، قبل أن يأتي عامل التنظيمات لدفعها إلى خارج باب المشفى كي تذهب مع مياه المطر".تلك المشاهد كانت كفيلة لخلق شعور لدى محفوض بالتخلي عن المهنة نهائياً لكن "التزامي بنقل الحقيقة منعني من ذلك"، علماً أن رحلته كصحافي في سوريا التي مزقتها الحرب تزامنت مع نشوء كثير من المؤسسات الإعلامية المستقلة التي ساهم في تأسيس بعضها شخصياً مثل" مركز حلب الإعلامي"، إلى جانب تدريبه عشرات الإعلاميين والناشطين الجدد. وختم: "سعينا وعملنا من أجل ترسيخ صحافة حرة تمثل الناس وتعبر عنهم، لا عن السلطة. وهذا ما نسعى إلى أن يكون واقعاً في سوريا الجديدة".