على مدى أربع ساعات ونصف الساعة تقريباً، الخميس في 19 الجاري، تحدث بوتين على شاشات التلفزة، ورد على أسئلة المواطنين الروس ومندوبي الصحافة المحلية والعالمية. وجمع بوتين هذه السنة بين مؤتمره الصحافي السنوي الكبير الذي يرد فيه على أسئلة الصحافة، وبين "الخط المباشر" السنوي أيضاً، والذي يرد فيه بوتين على أسئلة المواطنين الروس وشكاواهم. ولم تكف بوتين هذه السنة مدة 10 دقائق فقط، ليحقق رقماً قياسياً بالمقارنة مع أطول مؤتمراته الصحافية السنوية السابقة.أما من سيجلس متسمراً أمام شاشة التلفزة ليستمع إلى كل هذا "الهراء" (حوالى 30 ألف كلمة، حسب موقع الرئاسة الروسية)، كما وصفه أكثر من ناشط سياسي روسي معارض، فمن يعرف روسيا بوتين، يعرف أن "روس التلفزيون" يسمعونه بطيبة خاطر. فالروس يقسمون إلى "روس التلفزيون" و"روس الإنترنت". روس التلفزيون يتلقفون كل كلمة يقولها بوتين، وهم يعرفون روسيا والعالم من خلال ما تلقنه لهم شاشات التلفزة الرسمية متعددة القنوات، التي تشبه برامجها الإخبارية والسياسية برامج التلفزة السورية في عهد الأسد. والفارق الوحيد، هو أن الروسي بوسعه أن يستمع من مقدمي البرامج السياسية أقذع الشتائم التي اعتاد عليها في حياته اليومية. وفي إحدى إطلالات بوتين السنوية السابقة التي يتلقى فيها أسئلة المواطنين، سأله مواطن: "كيف يمكن أن يتحدث الروسي عن حياته اليومية من دون شتائم"، أجابه بوتين: "ها أنت تتحدث من دون شتائم". والشائع أن الروسي بوسعه أن يسرد قصة حدث ما مستخدماً الشتائم (من الزنار ونازل) فقط، من دون النطق بكلمة طبيعية واحدة تقريباً.
"روس التلفزيون" هم مواطنو الأرياف والمدن الصغيرة بمعظمهم، ومن الأجيال المتقدمة في العمر، أما "روس الإنترنت"، فهم من الأجيال الشابة في المدن الكبرى، وغالبيتهم لا يلتفتون إلى وسائل إعلام الكرملين وما يقوله قاطنوه. وقليل ما يهتم هؤلاء الروس إلى ما يجري خارج العالم الغربي، بما فيها الحروب ومن ضمنها الحرب التي كانت تشارك فيها روسيا دعماً لنظام الأسد.
ليس بالضرورة أن ينتمي "روس الإنترنت" إلى صفوف المعارضة الروسية لنظام بوتين، والتي إما تقبع في السجون ومعسكرات الاعتقال، وإما نفيت إلى الخارج. لكنهم في معظمهم يلتقون مع هذه المعارضة في عدم الاهتمام بما يقوله بوتين في مؤتمراته الصحافية السنوية و"الخطوط المباشرة" مع المواطنين الروس، ويعتبرونه "ثرثرة وهراءً".موقع Kasparov الروسي المعارض نشر في 20 الجاري نصاً للصحافي الروسي المعارض Andreï Okun. استهل الصحافي نصه بالقول "أشاهد "الخط المباشر" مع بوتين، ولا أفهم لماذا أقوم بذلك". "فإذا كنت سابقاً، وبحكم المهنة، أرى أهمية إعلامية ما في "الخط المباشر"، فإنني أشعر الآن بحماقة عميقة"، "بل اشعر حتى بأن مشاهدة ما يجري، هو إذلال وإهانة لأي مواطن في روسيا".
وأضاف بأنه يشعر بالاشمئزاز لرؤية رجل مسن لم يتعلم تحمل مسؤولية أفعالة بكرامة. في سوريا ليس هو المسؤول عما حصل، وربما يكون للأفضل، لأنه حسب تقاليده، "في سوريا حققنا أهدافنا".على قول الناطق بإسم الكرملين لصحيفة الإزفستيا، شارك الذكاء الإصطناعي هذه السنة في فرز أسئلة الروس الموجهة لبوتين إلى مجموعات متجانسة. وحضر المؤتمر عدد قليل من ممثلي الإعلام في البلدان "غير الصديقة، كما في العام الماضي". هذا بالإضافة إلى عدد من الأجانب عبروا عن رغبتهم في السفر إلى روسيا "خصيصاً" لحضور هذا المؤتمر. لكن بيسكوف لم يشر إلى ما إذا كانت الدعوة لحضور المؤتمر قد وجهت إلى بشار الأسد اللاجئ الآن في روسيا، والذي أكد بوتين أنه سيلتقيه ويسأله عن... مصير الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في سوريا منذ العام 2012.
وكانت والدة أوستن قد وجهت إلى بوتين رسالة تطلب منه المساعدة في العثور على إبنها، كما نقل موقع RBC الروسي يوم المؤتمر. ونقل الموقع عن الوالدة قولها إن لروسيا قاعدة في اللاذقية، و"بوسعهم معرفة ما يدور في سوريا". وفي الكرملين، حسب الموقع، صرحوا بأن روسيا تبحث في مصير قواعدها في سوريا مع السلطات الجديدة، "لكن ليس من قرار نهائي حتى الآن".
والجدير بالذكر أن المرأة لم تطلب المساعدة من بوتين فقط، بل توجهت بطلب المساعدة أيضاً إلى نتنياهو الذي وعدها بألا يقصف الجيش الإسرائيلي المواقع السورية التي يحتمل أن يتواجد فيها تايس.اهتمام بوتين بقضية الصحافي الأميركي، وتصريحه في المؤتمر بأنه ينوي لقاء الأسد ليسأله عن مصيره، وتصريحه كذلك عن استعداده لتقديم تنازلات في المفاوضات مع أوكرانيا، ولقاء الرئيس الأميركي القادم، جعل البعض يعتبر بأن إحدى مهمات المؤتمر الرئيسية هذه السنة كانت الاستعداد لمرحلة رئاسة ترامب. وأجمع على هذا الرأي الخبراء الألمان الذين تحدثوا في 19 الجاري إلى موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW. ولاحظ الموقع أن بوتين، وعلى غير عادته في المؤتمرات السابقة، تحدث كثيراً "وعن طيب خاطر" عن الموضوعات المتعلقة بحرب روسيا ضد أوكرانيا.
خبير الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية المتخصص بشؤون بلدان أوروبا الشرقية Stefan Meister رأى أن إطناب بوتين في الحديث عن الحرب الأوكرانية، يرجع إلى أن القيادة الروسية ترى أن الأمور تتجه نحو النصر، وبالتالي يمكنها الإدلاء بتصريحات إيجابية، وحتى الإفصاح عن شيء من خسائرها. وأشار إلى أن بوتين كان في مزاج جيد بشكل مدهش، على الرغم من أن روسيا في حالة حرب، وتواجه مشاكل اقتصادية كبيرة جدًا، وفقدت الأسد للتو في سوريا.
رأى الخبير أن حديث بوتين المسهب عن الحرب الأوكرانية وخسائرها، وعن اقتراحه إجراء مبارزة تكنولوجية "بين صاروخه الجديد Orechnik وكل أجهزة الدفاع الجوي الغربية لتدمير هدف ما في كييف، وكذلك حديثه عن العقيدة النووية، ما هو إلا استعداد لعودة ترامب إلى البيت الأبيض. كما رأى الخبير أن كل سياسة بوتين تدور حول هذا الأمر الآن، لأنه يتوقع تغييرات في مقاربة الولايات المتحدة لكل من أوكرانيا وروسيا.الخدمة الروسية في راديو "صوت أميركا" نقلت عن السوسيولوغ الروسي Igor Eidman إقتناعه بأن ما قاله بوتين في مؤتمره عن هدف الحرب في أوكرانيا والمفاوضات بشأنها، لا يحمل أي جديد، بل يصر على إجبار أوكرانيا على الاستسلام.
وبشأن دعوة ترامب لتجميد الحرب في أوكرانيا، قال Eidman أن بوتين بحاجة لإظهار أوكرانيا بأنها الطرف الذي يرفض المفاوضات، وذلك من أجل أن يتوقف ترامب عن تقديم المساعدات لأوكرانيا. وكل مناورات بوتين وثرثاراته عن استعداده للمفاوضات ترمي لهدف وحيد كي لا يبدو الطرف المسؤول عن استمرار الحرب، وإفشال خطة إنهاء الحرب التي يقترحها ترامب. ويأمل بأن الولايات المتحدة لن تسمح له بخداعها.
محلل شؤون السياسة الخارجية Ivan Préobrajenski قال للموقع إن ليس لدى بوتين حتى الآن موقفاً تفاوضياً محدداً، في حين يحاول أن يقنع الآخرين بأنه مستعد "لمفاوضات ما". ويرى أن بوتين لا يكف عن الإشادة بالرئيس ترامب، على أمل أن يكون الأخير حليفه في المفاوضات. وفي الحقيقة، لا ينوي بوتين الذهاب إلى أي مفاوضات، "حتى مع البرلمان الأوكراني". فهو قد صرح علناً بان الجيش الروسي في طور الهجوم، ولا معنى بالتالي للاستعجال في إنهاء الحرب.