بعد مفردة "التكويع" التي شاعت إثر سقوط الأسد مباشرة، راح السوريون (من خصوم الأسد) يستخدمون تعبير الفلول. استخدام التعبير الأول كان أقرب إلى السخرية، وإن حمل الكثير من المرارة إزاء شخصيات عامة ساندت الأسد وهو يرتكب جرائمه، وسارعت إلى التنصّل من مواقفها السابقة على نحو يمكن وصمه بالانتهازية. أما الحديث عن الفلول فلا يستهدف أولئك "التائبين"، وإنما يستهدف فئة غامضة يُحذَّر من نواياها وتحفُّزِها لاستعادة الحكم السابق، ومن ضمن الفئة المستهدفة أفراد قلائل لم يظهروا الندم عمّا مضى، أو لا يرون أنفسهم معنيين بإبدائه.التحذيرات من الفلول تغذّت مما ظهر كأنه تحفّظ على السلطة الجديدة في دمشق، من قبل حكومات عربية ساندت على نحو خاص الانقلاب العسكري في مصر على حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وقد لا تكون بعيدة عن دعم الانقلاب الأبيض في تونس أيضاً. والريبة تجاه حكومات عربية مسنودة أيضاً بما أبدته من حماسة للتطبيع مع بشار الأسد، وكان يمكن لها المضي بعيداً في دعمه لولا العقوبات والتحذيرات الغربية. أبعد من الحكومات العربية، لا تزال المرارة ماثلة في أفئدة الكثير من السوريين مما كانوا يرونه في المحصلة انحيازاً دولياً للأسد، ولا يُتوقّع زوال المرارة نهائياً خلال بضعة أيام أو أسابيع.
إلا أن المخاوف، سواء كانت حقيقية أو يُقصد بها التخويف والترهيب، لا تستند إلى الواقع السوري المختلف حقاً عن تجارب "الربيع العربي" الأخرى، أقلّه حتى الآن. وإذا بدأنا بالجانب الإقليمي، سيكون من السهل القول أن سلطة الأسد لا تشبه سلطة بن علي في تونس أو مبارك في مصر، فمبارك وبن علي لم يتسببا بفوضى إقليمية على النحو الذي فعله الأسد، ولم يكونا عوناً للمشروع الإيراني، ولم يستخدما أسلوب البلطجة الذي استخدمه جزار سوريا حتى اللحظات الأخيرة من خلال إغراق دول عربية بالمخدرات، بعد إغراق بعضها باللاجئين. أي أن المستائين الإقليميين من السلطة الجديدة في سوريا ربما يسعون إلى تغييرها، لكن من المستبعد أن يسعوا إلى إعادة الأسد.قد يُقال أن فرصة الأسد في العودة معدومة، بخلاف استعادة نظامه التي ستجد لها سنداً في الداخل والخارج. أيضاً هذا قول فيه الكثير من الاستعجال، وعدم التوقّف عند التغيرات التي طرأت على حكم الأسد، منذ دخوله مرحلة التوريث وصولاً إلى السقوط. وأول التغيرات أنه كان من قبل الدخول في التوريث يسعى ليكون نظاماً، ولو بتقليد مبتذل لأنظمة مثل الاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية ورومانيا، بينما تخلّى الأسد الأب عن فكرة النظام منذ قرر توريث ابنه، وصار مطلوباً إفراغ حتى السلطة من أية كفاءة، من أجل تسوية الطريق تماماً أمام ولي العهد، وهذا قلّما يحدث حتى في الأنظمة الوراثية. نسجّل هنا تحفّظاً من ناحية المفاهيم على استخدام تعبير "نظام الأسد"، فهو قد انحدر إلى مستوى لا يرقى إلى "النظام" كما هو متعارف عليه عالمياً، حتى عندما يُستخدم التعبير على سبيل الشتيمة.من المعلوم أنه تم إقصاء كافة شخصيات السلطة المعروفة في عهد الأسد الأب، حتى إذا كانت تنافس الوريث سوءاً. وأهم ما جرى بالتوازي مع تفريغ المستويين العسكري والمخابراتي هو إطلاق هامش من الحريات الاقتصادية، وهذا كان في المقام الأول ما يحتاجه أصحاب الثروات من العائلة الحاكمة وحاشيتها، فضلاً عن محاولة استمالة شرائح مجتمعية واسعة تضررت من العزلة الاقتصادية التي فرضها الأسد على السوريين. لكن الوريث لم يتأخر في التراجع عن وعود الانفتاح السياسي، بالتوازي مع تراجع وعود الانفتاح الاقتصادي لتستقر فعلياً على حلقة ضيقة تملك اقتصاد البلد، مع شركاء صغار هامشيين سيُقضى عليهم لاحقاً.
بدءاً من عام 2011، مع حالة الاستقطاب القصوى التي أحدثتها الثورة، صارت النواة الصلبة للسلطة متعيّنة بـ"صفوة" المخابرات والجيش، يساندها عدد محدود من الشركاء الاقتصاديين الذين موّلوا ميليشيات الشبيحة، في حين سُجّلت مغادرة معظم الفعاليات الاقتصادية إلى الخارج، وبما يُقدَّر بعشرات مليارات الدولارات. وإذا قفزنا عشر سنوات إلى الأمام، نستطيع اختزال اللوحة بآلة مخابراتية تعمل وفق العادة، إلى جوارها جيش منهك لم يعد يحارب لأن التفاهمات الدولية أوقفت الحرب، مع اقتصاد منهار وعدم وجود نية لدى الأسد وحلقته الضيقة للتخلي عن احتكار الاقتصاد بالمطلق على شاكلة احتكار السلطة.قبل سنة ونصف من الآن، كان ثمة حديث عن ثورة قد تندلع في الساحل السوري، وعن أن الأسد بذل جهده لتطويقها، وأشار حينها معظم التقديرات إلى فقدانه شعبيته، وإلى توق الناس إلى الخلاص. وكان الواقع قد استقر على نزول النسبة الكاسحة من السوريين تحت خط الفقر، بل تحت خط الجوع، مع نسبة مئوية متدنية جداً فوق الخط تقتصر على شبيحة الأسد بالمعنى المباشر وشركائه في المزيد من استنزاف الذين أفقرهم من قبل.
واحد من المؤشرات الوضيعة على ما كان يحدث ذلك الانخفاض الذي حدث في أسعار السلع ما أن سُحبت حواجز الفرقة الرابعة مع إسقاط الأسد، فتلك الحواجز العائدة لماهر الأسد كانت تتقاضى الأتاوات لصالحه من العابرين، وخصوصاً من الشاحنات المحمّلة بالبضائع. ولا يصعب إيراد العديد من الأمثلة المشابهة، الأمثلة التي تثبت أن رأس السلطة انحدر تماماً إلى مستوى البلطجة وفرض الأتاوات كمهووس بزيادة ثروته.يجوز لنا تشبيه ما آلت إليه الأسدية برأس ضخم جداً وجسد هزيل إلى أقصى حد، وربما يصحّ أكثر التشبيه برأس ضخم جداً مع أذناب هزيلة. بسقوط الأسد، سيكون من المبالغة الحديث عن أسدية بلا رأس، أسدية يمكن تشبيهها بما يُحكى عن "الدولة العميقة" في مصر، أو حتى عن فلول بن علي في تونس. أي أنه لا وجود لأسدية تعبّر عن شبكة منتظمة ومتنوعة من المصالح، والتعيّن الوحيد الذي يُخشى منه هو المجرمين والشبيحة المهدّدين بسبب جرائمهم، وهم جميعاً أدنى من أن يقيموا نظاماً، إلا أنهم يمتلكون القدرة على إثارة الفوضى الأمنية ما دام السلاح في حوزتهم.
من الضروري اليوم الحذر من الأذناب المستعدين لحرق البلد دفاعاً عن أنفسهم هذه المرة، لا دفاعاً عن الأسد، والذين لا مشروع لهم ولا مشروعية اجتماعية تجعلهم مؤهّلين لاستلام السلطة، وفي أقصى حالات استغلالهم من قوى خارجية، فسيكونون قادرين على زعزعة الاستقرار. ولعل خشية كبيرة ماثلة أمام السوريين، هي فشل السلطة الجديدة وعملية التحوّل الديموقراطي في البلاد، ما قد يصطنع فلولاً للأسد من فئات تأذّت بغير حق من العهد الجديد، أو لم تنصفها الديموقراطية الوليدة. أما الآن فلنا أن نتخيّل الأسد سعيداً في شتائه الروسي، وهو يتابع تخوّف السوريين من ترِكتِه، ويظنّ أنه قد نبتت له فلول من حيث لا يحتسب! لعلها هدية قيّمة جداً لمن هو أقل من أن يُقال عنه "نظام سابق"، أقل من أن تكون له فلول.