لم يكن خروج مظاهرة في ساحة الأمويين بدمشق، للمطالبة بالدولة العلمانية والمدنية، كافياً لنشر الاطمئنان بشأن مستقبل سوريا، ليس لأن الفصائل الإسلاموية التي أسقطت حكم نظام الأسد الدكتاتوري الممتد لأكثر من 54 عاماً، قمعت ذلك الحراك مثلاً، حيث حمته في الواقع، بل لأن الجدال الممتد بشأنه وخطاب التخوين الذي انتشر بعده، أعطى انطباعاً متكرراً بمدى عبثية الاهتمام بأي شيء يجري في البلد المأزوم، والغارق في الانقسامات من دون هوية وطنية جامعة.
وبين الجدال حول عدم رفع كثيرين لعلم الثورة السورية، وانتشار أخبار مزيفة عن توجيهات برفع علم النظام السوري فقط، وصور مضللة عن هوية المشاركين في المظاهرة، وتسخيف المطالب بالقول إن الوقت الحالي ليس جيداً للحديث عن هوية الدولة مقابل الحزن والتضامن مع ضحايا نظام الأسد وعائلاتهم، والشتائم الجنسية التي طالت السيدات في المظاهرة، وغيرها، بدا المشهد محزناً بدل أن يبث التفاؤل بمستقبل أفضل لبلاد لم تعرف سوى المسيرات المليونية، التي كان يجبر فيها السوريون على الهتاف باسم القائد، أو المظاهرات المعارضة التي كانت تتعرض للرصاص الحي.أحد الصحافيين المعارضين كما يعرف عن نفسه في مواقع التواصل، طالب قيادة العمليات العسكرية التي أسقطت الأسد، بإطفاء الكاميرات وإرسال القوات إلى ساحة الأمويين للتعامل مع المتظاهرين، الذين باتوا يوصفون بأنهم "فلول النظام" لمجرد مطالبتهم بدولة علمانية وبدستور جديد وفصل للسلطات وغيرها، بشكل يضمن الحريات لجميع مكونات الشعب السوري، بما في ذلك المسلمون السنة الذين يشكلون الأغلبية من ناحية عدد السكان، والذين لا يتشاركون حتى الدرجة نفسها من الالتزام الديني. وهي تفاصيل لطالما كررتها قيادة المعارضة في الأسبوعين الأخيرين، بشكل تصريحات تحدثت عن حماية الأقليات وعدم تحويل سوريا إلى أفغانستان جديدة، بانتظار تحولها إلى أفعال للحكم على مدى جديتها.وهذا النوع من الدعوات، وصولاً للمنشورات التي تضع كل من يطالب بالعلمانية في خانة "فلول النظام" الذين يجب اجتثاثهم، مروعة، لأن الثورة السورية في أساسها بدأت كحراك مدني مطالب بالديموقراطية والتعددية السياسية، ولم تنتشر فيها الأسلمة إلا بعد عدة سنوات، خصوصاً عندما أطلق النظام السوري المخلوع آلاف المجاهدين والسجناء الإسلامويين من معتقلاته، بهدف أسلمة الثورة وتقديم نفسه كشريك في الحرب على الإرهاب حينها. وهو أمر لم يخدع أحداً بطبيعة الحال.والمطالبة برفع صور ورموز الثورة السورية يجب أن تبدأ من ذلك الماضي الذي يبدو اليوم كذكرى بعيدة، وليس بالرايات الإسلامية التي تقصي كثيراً من الأفراد، الذين بكل بساطة قد يكونون من أديان أخرى أو من خلفية غير دينية أصلاً، وليس فقط بصور قادة الفصائل الحاليين، الذين كان تعاملهم في الملفات الحقوقية خلال السنوات الماضية إشكالياً، لدرجة خرجت ضدهم مظاهرات في الشمال السوري نفسه، خلال سنوات الحرب ضد النظام المخلوع، للتأكيد على مدنية الثورة وعلمانيتها البعيدة عن التشدد الديني.وفيما يمكن الحديث عن شجاعة المتظاهرين المطالبين علناً بشكل الدولة التي يرغبون بها في سوريا المستقبلية، ورفع شعار "ديموقراطية لا دينوقراطية"، فإن المشهد لا يكتمل بالنظر لخطاب التخوين الذي يقابل أولئك بالقول: "أين كنتم قبل سنوات"، مع نشر معلومات غير دقيقة تفيد بأن الإسلاميين تحديداً كانوا من يثورون ضد نظام الأسد فقط، متناسين أسماء كانت تقود المظاهرات الشعبية ضد الأسد، وتأتي من خلفيات دينية مختلفة، مثل الممثلة الراحلة مي سكاف (مسيحية) وزميلتها الراحلة فدوى سليمان (علوية) وفارس الحلو (مسيحي) وميشيل كيلو (مسيحي) وفيصل القاسم (دروز)، وغيرهم كثيرون.وإن كانت استعادة السوريين لساحاتهم وفضائهم العام إيجابياً، فإن معاملة كل من يتظاهر لسبب أو لآخر من منطلق التخوين، تعني أن الثورة نفسها قد تتحول على يد أبنائها إلى "بعث" جديد، وهو أمر يتنافى مع فكرة الثورة نفسها كإطار نبيل يهدف إلى الحرية لجميع السوريين على كافة اختلافاتهم. ولعل إطلاق صفة العمالة للنظام المخلوع على كافة العلمانيين بالتالي، لا تختلف عما كان يروج له النظام في السابق ضد المعارضة ككل بوصفها عميلة ومرتهنة للخارج أو تصوير اليمين المتطرف لكل المسلمين على أنهم إرهابيون، وكلها تعميمات لا يجب أن تكون حاضرة في مجتمع صحي.ولذا، فإن المشكلة التي تظهر اليوم، لا تتعلق ربما برفع شعارات الثورة السورية التي كانت حاضرة في ساحة الأمويين، ولا بمطالبة كل من يتظاهر بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الضحايا، بل تتعلق بمعنى أن يكون المرء سورياً، بعد عقود أفرغ فيها النظام السابق المفاهيم الوطنية من مضمونها لتصبح مجرد شعارات خشبية، فيما تم العمل بشكل ممنهج على تفرقة السوريين في خانات متصارعة إثنياً وعرقياً وجندرياً وطائفياً، مع تصوير النظام نفسه الحامي الوحيد لكل فئة ضد الفئات الأخرى. ولعل أكبر انتصار يحققه السوريون على ذلك النظام الذي ظلمهم جميعاً، هو إظهار وحدتهم اليوم ومحبتهم لبعضهم البعض، مهما كان الاختلاف الأيديولوجي بينهم كبيراً، وتقديم الاختلاف على أنه ظاهرة صحية في مجتمع يتعافى ويتطلع لمستقبل أفضل، بدلاً من خطاب التخوين والتشنج.والمهمة قد لا تكون سهلة، خصوصاً مع انتشار فيضان من المعلومات المضللة من طرف جهات تروج للنظام السابق في محور الممانعة تحديداً، حسبما أفادت مؤسسات متخصصة في رصد الأخبار الكاذبة خلال الأسبوعين الأخيرين، والخوف من تكرار سيناريو دول الربيع العربي التي أطاحت بدكتاتوريات راسخة وحصلت فيها ثورات مضادة لاحقاً أعادتها إلى الوراء، كما هو الحال في تونس ومصر.وإن كانت الثورة مشروعاً للإطاحة بالنظام، فإن تلك المهمة تمت بنجاح، والتقسيم السابق للسوريين بين موالين ومعارضين يجب أن ينتهي لأنه لا يساهم سوى في تأجيج الخلافات وينذر بحرب أهلية على المدى القصير أو البعيد، بسبب الاحتقان والتشنج، أو بحقبة من القمع أو التوترات السياسية، وكلها أمور يمكن للسوريين تجنبها إن أظهروا ميلاً للوحدة الوطنية من جهة واتجاهاً لعدم تسخيف مخاوف بعضهم وقضاياهم من جهة ثانية، لأن وجود مظلومية واحدة لا تعني عدم وجود غيرها بطبيعية الحال.ولا يعني ذلك نسيان جرائم النظام وانتهاكاته لحقوق النظام، لكن مسار العدالة يجب أن يأخذ إطاراً قانونياً ضمن محاكم مستقلة، ويتعلق ذلك بالأشخاص المحرضين ضد الشعب السوري خلال السنوات الماضية بالطبع، لكن تلك العدالة لا تعني تحولها إلى خطاب للتخوين أو لتسخيف أي مخاوف من قبل أي سوري، أو لتأجيل النقاش في المواضيع السياسية، خصوصاً أن نظام الأسد كان يكرر القول بأن "الوقت غير مناسب" للمطالبة بالإصلاح السياسي أو الديموقراطية، لأسباب تافهة وهمية، وهو ما لا يجب أن يتكرر اليوم تحت أي ظرف كان، كما أن الوقت الحالي هو الأشد حرجاً والذي يجب ألا يتم تركه للفراغ بل يجب على السوريين الاحتجاج والمطالبة بصوت عال بكل ما يريدونه، خصوصاً أن السلطة المؤقتة الحالية، تبدي مؤشرات إيجابية تجاه هذه النوعية من التحركات.