يومًا بعد آخر، تتكشف تداعيات سقوط نظام بشار الأسد في سوريا على لبنان. ومثلما تواجه القوى السياسية سؤالًا كبيرًا بشأن علاقتها ببعضها ومستقبل نفوذها بعد طيّ إرث وصفحة الأسدين، حافظ وبشار، كذلك الحال في علاقة بعض المجتمعات والمناطق اللبنانية.الذاكرة الأليمةسقط الأسد، فاستعاد أهالي جبل محسن وباب التبانة في طرابلس ذاكرة ثقيلة ومليئة بالدم. ووجدوا أنفسهم أمام اختبار تجاوز تداعيات تلك الذاكرة، منذ اللحظة الأولى لإعلان سقوط الأسد. لكن خطوط التماس التي كانت تربط باب التبانة وجبل محسن عند "شارع سوريا" سقطت مع آخر جولة قتال جمعتهما في عام 2014. هذا ما يردده معظم شباب وأهالي المنطقتين اللتين أنهكتهما الحروب والمعارك، التي تعود جذورها إلى منتصف السبعينات، مع دخول الجيش السوري إلى لبنان.في "شارع سوريا" الذي يفصل بين باب التبانة وجبل محسن، كانت تتجلى ذروة الانقسام بين أبناء منطقتين من مدينة واحدة. وعلى مدار نحو أربع عقود، عملت القوى السياسية في المنطقتين على خلق بؤرة توتر طائفي سياسي، في فتنة عنوانها "صراع علوي وسني"، وبلغت ذروتها بعد الحرب السورية عام 2011.تحولات الجبلأما بعد سقوط الأسد، فيبدو المشهد بين جبل محسن وباب التبانة أكثر نضجًا ووعيًا، وكأن أبناء المنطقتين تعلموا ما يكفي من دروس الماضي، على الرغم من مرارة الذاكرة.لا شك أن سقوط النظام السوري خلّف صدمة غير متوقعة في جبل محسن الذي كان يدين بالولاء له بادئ الأمر، وفقًا لما يتحدث به شهود عيان لـ"المدن".تاريخيًا، كان آل عيد المرتبطين ايديولوجيًا وسياسيًا بالنظام السوري، عبر الحزب العربي الديمقراطي، هم الأكثر نفوذًا في جبل محسن، لكنه بدأ يتراجع ويتلاشى في السنوات الأخيرة.ومع استيعاب صدمة سقوط نظام الأسد، أمام مشهد التحول التاريخي في سوريا، وفرحة الناس العارمة هناك بطيّ صفحته بعد أكثر من نصف قرن، بدأ يتبدل المشهد في جبل محسن. وتدريجيًا، بادر الكثير من الناس إلى إزالة صور الأسد المرفوعة في الجبل، منعًا لأي استفزاز. وأبدى آخرون احتضانًا وتفهمًا لخيار الشعب السوري، وقبولًا كبيرًا لفكرة الانتقال السياسي في سوريا.وفي هذا الإطار، يقول الناشط المدني في جبل محسن، يوسف سلطيه، لـ"المدن": إن جبل محسن ينضوي في موقفه تحت راية "المجلس الإسلامي العلوي" برئاسة الشيخ علي قدور، الذي أكد على وقوفه وراء الجيش اللبناني ونبذ التوترات والنعرات الطائفية لأي سبب كان.ويضيف أن أهالي الجبل يقفون إلى جانب الشعب السوري وخياراته، ويتابعون الانتقال السياسي وسبل انعكاسه إيجابًا على لبنان وسوريا بكل أطيافها.ويعتبر سلطيه أن الخلاف بين أهالي جبل محسن وباب التبانة كان سياسيًا في المقام الأول، وقد جرى استغلاله طائفيًا، وأن كليهما يرفضان الانجرار وراء أي فتنة. كما أنهما يتمسكان بالعيش المشترك وطي صفحة الماضي الذي كان ثمنه باهظًا على أهالي المنطقتين.التبانة تنبذ الفتنفي باب التبانة، لا يختلف المشهد عن جبل محسن لجهة نبذ أي محاولة للفتنة. ويعتبر سكانها أن جدران أبنيتهم تحفظ ذاكرة الحرب وجولات القتال. ولا يريدون تكرار أي سيناريو من هذا النوع. ويعتبرون أنهم ينتمون إلى بلد ومدينة واحدة مع أهالي الجبل.ويقول الشيخ سالم الرافعي لـ"المدن": إن سقوط نظام الأسد كان نقطة تحول مفصلية لدى أهالي باب التبانة، الذين ذُبحوا بالمئات على يد النظام خلال الحرب الأهلية وبعدها، وحتى في تفجير مسجدي التقوى والسلام عام 2013. لذا، كان سقوط النظام بمثابة طيّ لصفحة الخوف والقتل والحروب في باب التبانة.لكن أهالي هذه المنطقة، التي تعد من أكبر أحزمة البؤس والفقر في لبنان، وكحال مختلف أهالي طرابلس، تصرفوا بوعي كبير بعد سقوط النظام. ورفضوا محاولات الانجرار إلى أي نوع من الفتنة بعدما تخلت عنهم معظم القوى السياسية. ولن يسمحوا بتكرار تجربة الماضي بأي شكل، وفقًا للرافعي.ويذكر الرافعي أن كل محاولات شيطنة طرابلس باءت بالفشل، على الرغم من الثمن الذي دفعته بعد الحرب السورية. وهي حرب تسببت بزج المئات من شباب المدينة في السجون لمجرد تأييدهم للثورة السورية. ويدعو الرافعي إلى الإفراج عمن بقي من الموقوفين الإسلاميين في السجون، ومعظمهم من طرابلس، معتبرًا أن ذريعة توقيفهم "سقطت بسقوط النظام السوري".طرابلس كانت وما زالت حاضنة لمختلف الثورات والتحولات الكبرى في لبنان. واحتضنت مؤخرًا آلاف النازحين من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، في مشهد كرر ما فعله أبناؤها إبان حرب تموز 2006. وسقوط نظام بشار الأسد، فتح الباب أمام مرحلة جديدة بين أهالي باب التبانة وجبل محسن. وهي مرحلة، تُنبئ بتجاوز الأحقاد والحروب القديمة والتغلب عليها.رغم الذكريات المؤلمة التي تركتها سنوات الصراع، إلا أن روح الوعي والنضج، بدأت تنبثق من هاتين المنطقتين، في مدينة تكبدت فاتورة باهظة من تحويلها ساحة للمعارك. واليوم، يتطلع أهالي جبل محسن وباب التبانة، إلى المستقبل بعين جديدة، أكثر تسامحًا ورفضًا للفتنة بكل أشكالها.