ليس الكاتب سردار عبد الله أول من انبهر بشخصية مَوْلانا خالد (1777-1827) وحياته القصيرة الغنية بالأحداث والتحديات. لكنه أول من حمل عصا الترحال من السليمانية إلى الهند مقتفيا أثر تلك الشخصية التي حيرت وما تزال تحيّر المهتمين والسياسيين منذ عودته من الهند عام 1811. وليس الكاتب أول من أخذته الجذبة الحسية أو الفكرية أو كلاهما معاً، بل سبقه جَمْعٌ لا يُعَدّ من المطلعين وعلماء الدين وبسطاء الناس من بلدان متعدّدة، بدءاً بالشيخ شامل الشيشاني وعبد القادر الجزائري ووصولاً إلى الباحثين في جامعات أوروبا وأميركا والبلدان الشرقية. وقد وصل الأمر بزكريا، خادم مقام الإمام خالد في دمِشق، إلى أن يختار إسوة بأبيه وجده، أن يعيش طوال حياته مع عائلته، بين القبور، في بيت يضم مرقد مَوْلانا خالد على قمة جبل قاسيون والذي تحول منذ قرنين إلى مقبرة تضم الكثيرين من أكراد سوريا. منهم من اختار المكان ليكون قريباً منه. ولم ينس زكريا أن يوصي بدفنه هو أيضاً بجانب أبيه وجده أمام باب البيت الذي ولد فيه.
حين قرر الكاتب سردار عبد الله السفر في اقتفاء أثر مَوْلانا لم يفلح ضغط الأحبة والاقرباء في ثنيه عن رحلة محفوفة بالمخاطر. كان يدرك أن ما واجهه مَوْلانا قبل قرنين في سفره مع القوافل وعلى ظهر حصان، أخطر بكثير من رحلات اليوم. وحين توجه الكاتب إلى الهند لم يكن يحمل معه إلا مجموعة من أسماء الأماكن والاٍشخاص. ولكن أهم ما كان لديه هو إرادته في الوصول إلى المكان الذي وصل إليه مَوْلانا وعاش فيه عاماً كاملاً.
أثناء وصف رحلته يعيد الكاتب إلى ذاكرته ويمنح قراءتنا إشارات وأمثلة كثيرة من الثقافتين العربية والفارسية. فتارة يقتطف شيئاً من بستان الرومي أو العطار، وتارة أخرى يذكر ما يمر بذهنه عند الشاعر محمود درويش، من دون أن ينسى عالَمَه الكردي وسنوات المقاومة التي عاشها في الجبال. وهذا يعكس ثقافته ككردي بين الثقافات الأخرى.
يرسم سردار عبد الله في كتابه "موجز الرحلتين في اقتفاء أثر مَوْلانا ذي الجناحين"، المنشور عن دار نوفل، 2024، رحلتيه بكلمات لغة ليست لغة أمه، ولكنه يجيدها ويوظف مفرداتها بمهارة كي يوصل إلى القارئ ما يحس به ويعيشه أو يشاهده أثناء تنقلاته في بلد كالهند لا يعرف أهلها ولا قدرةَ له على لغتهم. هناك، ولحسن حظه، يلتقي بمن يجيد العربية ومن يعرف الفارسية، فتصبح اللغتان إضافة إلى مترجمَيْن عراقيَيْن جسره في التواصل مع السكان. وحين يشرح للناس هناك ما قاده إلى حيث هم، نرى من تأخذه الرغبة لا في مساعدته فقط بل في زيادة معرفته حول الشخص الذي جاء إلى بلادهم قبل قرنين. ولسوء حظه يقع أحياناً في مصيدة الوعود التي لا يمكن تحقيقها، لمجرد أن الواعد لم يتعلّم أن يقرَّ بعدم معرفته حين يُسْأل سؤالاً تتعدّى حدود معلوماته. ومن طرائف رحلته أنّه كان مرة في ظلام الليل على دراجة نارية لا ضوء لها، يقودها طالب عراقي، دون أن يدري أي منهما إلى أين يتوجهان!
فمن هو هذا الإنسان الذي جذب سردار عبد الله والعشرات قبله وبأشكال مختلفة؟ والذي كان في القرن التاسع عشر محط سجالات عقلانية وغير عقلانية قل ما نجد لها مثيلات في القرون الأخيرة. سيرة
ولد مَوْلانا خالد في قرية قَرَداغ القريبة من مدينة السليمانية في كردستان العراق في حدود عام 1777. كانت عائلته متوسطة الحال ولا تنتمي إلى الطبقات الميسرة ولا نعرف لها أو له إنتماءً عشائرياً بدرجة يضعه منذ صغره في محيط يحميه من تهديدات الخارج. بدأ التعلّم صبياً عند والده الذي كان رجل دين بسيط. ثم ذهب إلى السليمانية ودرس في مدارسها الدينية ومن ثم سافر إلى مدن أخرى لغرض الدراسة مع أشْهَر المدرسين في تلك الفترة. وحصل في أوائل العشرينات من عمره على شهادة التدريس وممارسة الإمامة في المساجد. وكان حينها يتمتع بشهرة واسعة حول ذكائه وقوة ذاكرته. فعرض عليه باشا إمارة بابان، وعاصمتها السليمانية، ان يأخذ مكان استاذه الذي مات بوباء الطاعون. فبدأ بالتدريس وإدارة الشؤون الدينية والروحية واستمر خلال سنوات. إلا أنه كان يبحث عن شيء ما ولا يتمكّن بنفسه من تحديده. فقرّر في عام 1805 الذهاب إلى الحج. التقى اثناء رحلته بالعلماء وأهل المعرفة في كل المدن التي مرّ بها. هكذا اخذ الشاب يدرك رويدا رويدا قابلياته ومستوى الآخرين ويرى كيف أن شخصيته ومعرفته يبهران محاوريه. وكان أثناء وجوده في مكة والمدينة يحاضر أمام مستمعين من بلدان وثقافات مختلفة، يناقش ويجيب على أسئلة يطرحها الحجاج بثلاث لغات، الكردية والفارسية والعربية. وحين تكون الأسئلة باللغتين الأولى والثانية كان يجيب بهما أولا ثمّ يترجم بنفسه السؤال والجواب إلى اللغة العربية. وهناك التقى بشيخ هندي ودار الحديث بينها حول الفتوحات الروحية وحاجة الشاب إلى من يقوده في مقامات وأغوار التصوف. فقال له الشيخ إن ما يبحث عنه سوف يجده في الهند، لا في مكان أخر.
ولم تمر أشهر على عودته حتى وصل إلى السليمانية هندي يدعى درويش محمد. وأخذ يبحث عن الجامع الذي يديره الملا خالد. وحين تمّ اللقاء بين الرجلين انعزلا خلال أيام وترك الأستاذ خلالها التدريس. ثم أعلن لتلاميذه ومعارفه أنه مسافر إلى الهند لفترة قد تطول. بعدها شدّ الرحال مع صديق كردي ودليلهما الدرويش الهندي، في رحلة مع القوافل دامت أكثر من عام عبر جبال ووديان وصحارى إيران وأفغانستان وصولا إلى الهند. ولاقى في طريقه الكثير من المتاعب ودخل في سجالات حادة مع علماء الشيعة. حاول بعضهم على أثرها قتله. وحين وصل إلى دلهي عبَّر عن رحلته بقصيدة لامية مشهورة، تحدّث فيها عن الكثير مما لاقاه في رحلته. وتبدأ بهذا البيت: كمُلَت مسافةُ كعبة الآمال - حمدا لمن قد منَّ بالإكمال.وخلال عام أو أكثر، تابع الشاب خالد دروس استاذه الشيخ عبد الله الدهلوي ودخل رياضاته الصوفية وتعلّم منه أصول القادرية والجشتية والسهروردية والكبروية والنقشبندية. ثم حصل منه على إجازة لنشر الطريقة النقشبندية في بلدان الإمبراطورية العثمانية. وذكر الشيخ في إجازته أنه لم ير في حياته من وُهِب من القدرات مثل خالد ومنحه لقب "مَوْلانا"، وهو في أوائل الثلاثينات من عمره. ثم عاد مع صديقه الكردي ودليله الهندي ووصل إلى كردستان في عام 1811. فاحتفل بعودته جمع غفير من مدن إيران وكردستان والعراق. وأول من لبى دعوته وصار مريدا له هو استاذه الذي كان يكبره بأربعين عاماً، محمد قسيم كردستاني. شيوخ القادرية
منذ ذلك الحين بدأ مَوْلانا العمل لنشر الطريقة الجديدة بين الناس في مدينته السليمانية. وخلال فترة قصيرة انضم إليها عدد كبير من العلماء والناس البسطاء وأصحاب المهن من الطبقات الوسطى. وانتشرت طريقته بسرعة وعلى نطاق واسع لدرجة أحس معها شيوخ الطريقة القادرية بالخطر على مصالحهم فبدأوا حملة تشويه ضده دفعته أخيراً وبضغط من السلطة السياسية الكردية إلى ترك المدينة واللجوء الى بغداد. ولم يتوقف شيوخ القادرية في حملتهم ضده الى هذا الحد، بل كتب كبيرهم الشيخ معروف النودهي (1752-1838) رسالة إلى والي بغداد يتهم فيها مولانا خالد بالكفر والشعوذة ويطلب منه طرده من المدينة. إلا أن أهل المدينة استقبلوه بحفاوة كبيرة وعلى رأسهم الوالي الذي أصبح من مريديه وأمر ببناء جامع له يسمى حتى الآن بالتكية الخالدية.
في عام 1811 مات باشا السليمانية وبدأ ابنه بالاقتراب من مَوْلانا خالد طالبا منه العودة. فبنى له جامعاً يسمى حتى اليوم بمسجد الخانقاه او خانقاه مَوْلانا (خانقاه كلمة فارسية تطلق على التكايا النقشبندية في الكثير من البلدان الإسلامية). ولا يبعد الخانقاه مَوْلانا أكثر من دقائق عن الجامع الكبير الذي كان يديره عدوه الشيخ النودهي. فرفض النودهي الواقع الجديد واستمر في محاربته وكتب مع آخرين رسالة إلى عالِم مشهور انداك، الشيخ يحيى المزوري (1772-1839) يطلبون منه المجيء إلى السليمانية لإنقاذ دينهم مما سيسببه له "خالد المتعمق في العلوم الإسلامية إلى درجة الكمال" والخارج عن الطريق الصحيح. فركب المزوري دابته متوجها إلى السليمانية لإنقاذ الأمة الاسلامية من خطر "الكامل في العلوم". وحين وصل اتجه مباشرة إلى خانقاه الشيخ الشاب، وأهل المدينة في انتظار نتيجة الصراع الذي قض مضاجعهم منذ سنوات. وكان رجال الباشا ودراويش الشيخ القادري مع جمهور من السكان ينتظرون امام باب الخانقاه نتيجة المبارزة.
بعد ساعات من انعزال الزائر مع مَوْلانا، خرج الاثنان بهدوء ووجه الشيخ يحيى كلمة إلى الجمهور وأخبرهم بأسباب زيارته معلنا في النهاية أنه منذ تلك اللحظة سيصبح مريدا لمَوْلانا خالد وإلى يوم الدين! أمام خطبته المؤثرة
عندها قامت القيامة في المدينة ووصل الأمر بالشيخ النودهي إلى ارسال العشرات من فلاحي القرى التي كان يملكها لقتل منافسه بعد صلاة الجمعة. إلا أنّ الفلاحين البسطاء رغم أنهم كانوا مسلحين تراجعوا مبهوتين أمام خطبته المؤثرة وهيبته في ملابس بيضاء لم يروا مثلها من قبل. ولم يثنِ هذا الفشل الشيخ القادري عن إرادته وازداد احساسه بالخطر على منصبه ومكانته وأملاكه. فأرسل ابنه الوحيد وابن عمه لقتل الشيخ النقشبندي. إلا أنّ الابن عاد وحده خائباً. اما ابن العم فإنه وقع مجذوباً على يد مَوْلانا خالد وأصبح منذ تلك اللحظة واحداً من أوفى اتباعه تاركاً الطريقة القادرية ودخل النقشبندية مع كل أقرانه. لم ييأس النودهي من تنفيذ خطته. فأرسل لمرة أخرى ابنه مع أحد اتباع الطريقة ولكنهم عادوا كسابقيهم مع الرهبة التي شعروا بها وهم يشاهدون شيخ الطريقة الجديدة. خلال هذه الفترة كانت السلطات العثمانية تنظر إلى الصراع الدائر في المنطقة الكردية بارتياح ما لبث ان تحول إلى تساؤلات قلقة حين بدأ خلفاء الشيخ الكردي بالانتشار في كل المدن العثمانية منها إسطنبول. وأخذوا يجمعون الناس حولهم بأعداد مخيفة. ووصل الصراع بين الشيخين في السليمانية حدا اضطر مَوْلانا خالد أخيرا إلى ترك المدينة سراً في عام 1820 واللجوء مرة ثانية إلى بغداد. غير أن السلطات العثمانية كانت هذه المرة أقل إيجابية مع الشيخ. إذ كان نفوذه يبعث على القلق، ولم يكن أحد يعرف غاياته وأهدافه العميقة وأن عدد خلفائه النشيطين في البلدان العثمانية تجاوز المائة وكان عدد اتباعه يقدر بعشرين الفا، بل مائة ألف شخص، بتقدير أعدائه. وتم جمعهم خلال ثمانية أعوام فقط. وأخيرا اضطر مَوْلانا خالد تحت الضغوط العثمانية في بغداد الى ترك العراق بشكل نهائي واللجوء إلى دمشق حيث كان يعيش عدد من أتباعه. ولم تتركه السلطات العثمانية دون مراقبة حذرة هناك. وبعد موته بأيام في عام 1827 أصدر الباب العالي أمرا بإبعاد خلفائه عن العاصمة العثمانية.
مع كل ما عاناه مولانا خالد في حياته، فإن الطريقة التي نشرها لا تزال واحدة من أهم الطرق الصوفية في العالم الإسلامي إن لم تكن أكبرها عدداً، كما يؤكد ذلك الباحث الأميركي حامد الكار. وأول من أدرك أهميته في تاريخ الشرق الأوسط كان الباحث اللبناني في جامعة اوكسفورد البريطانية ألبرت حوراني (1915-1993) صاحب الكتاب المشهور "تاريخ الشعوب العربية"، حيث كتب عنه مقالة في عام 1972 كانت بداية في الاهتمام به في الجامعات الغربية. ثم تبعه تلميذه الأستاذ الفلسطيني بطرس أبو منة (1932-2018)، ثم الباحث الهولندي مارتن فان برونسن (1946-). ولايزال هذا الاهتمام مستمراً. كما لاتزال الاسئلة عن أهدافه السياسية من دون جواب حتى يومنا هذا. السفر مرتين
هذه الحياة الزاخرة لمَوْلانا خالد هي التي دفعت بالكاتب سردار عبد الله إلى السفر مرتين إلى الهند لاكتشاف المكان الذي عاش فيه مؤسس النقشبندية الخالدية خلال عام 1810، أي المكان الذي لم يزره قبله أحد من المهتمين به والدارسين لحياته واعماله أو من التابعين لمنهجه الصوفي. فهناك تعلّم أصول طريقة صوفية فيها لمسات الثقافة والرياضات الروحية الهندية والاسيوية، أو بتعبير أخر، شيء من التراث البوذي. أما سردار عبد الله فلم يكن دافعه الإيمان الصوفي ولا الدراسة أو البحث، فلا هو نقشبندي ولا هو صوفي ولا يخطط، على الأقل في الوقت الحاضر، لكتابة دراسة عن مَوْلانا. وانما قاده شغف كتابة رواية عن إنسان يُعَدّ من أشهر الأكراد بالنسبة للباحثين بعد صلاح الدين الايوبي. وحياته تشبه أسطورة او قصة يكتبها كاتب سيناريو. ولا ضير لدى الكاتب سردار عبد الله أن يعاني من كل ما عاناه كي يجد الخانقاه الذي عاش فيه مَوْلانا قبل قرنين. خانقاهٌ بقَبْوه الذي كان الحاضرون والزائرون يستعملونه للاستراحة والانقطاع. أو بصخرته الكبيرة المسطحة التي كانوا يقيمون عليها صلاة النوافل، أو يستخدمونها أحيانا كسرير لقيلولة الظهيرة. وهمة باب بجانب تلك الصخرة حين فتحه دليل الكاتب ظهرت امامه قبور أربعة، يرقد في ثانيهما عبد الله الدهلوي، شيخ مَوْلانا خالد، استاذه ومدربه في المقامات والمراتب الصوفية. عند ذلك بدأ سردار عبد الله بنسيان جراح فشل السفرة الأولى ومتاعب السفرة الثانية. فها هو أخيراً في حضور ما كان يبحث عنه..