ليس قائد الجيش جوزاف عون مرشّح "أبو محمد الجولاني". وبالتأكيد هو ليس مرشح وليد جنبلاط بوصفه طرفاً مسلماً أراد الإملاء على المسيحيين مرشحهم الرئاسي. طُرح اسم جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، في أعقاب ثورة 17 تشرين، وبنتيجة الأداء الذي قدّمه الرجل. وقبلها وبعدها، نجح في تمتين علاقاته الدولية ولا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، المملكة العربية السعودية وقطر. في لبنان جرى طرحه بجدية قبل أشهر من قبل أفرقاء مسيحيين وازنين بينهم القوات اللبنانية وحزب الكتائب ومسيحيون مستقلون. فجنبلاط مثلاً حاول منذ أشهر عديدة التواصل مع حزب الله والتيار الوطني الحر، في الفترة التي سبقت الفراغ الرئاسي والتي تلته، للتفاهم والتوافق على بعض الأسماء وهو ما لم يحصل. وصل إلى مكان مسدود بين خيارات متباعدة فاختار الإقدام على الخطوة.
خبر زائف
أما استحضار اسم أحمد الشرع بوصفه مقرراً أو مؤثراً، ففيه الكثير من مجانبة الصواب. حتى أن الخبر الذي جرى تداوله في لبنان بأن الرجل أعلن عن دعم قائد الجيش لرئاسة الجمهورية، هو خبر زائف. ولذا، لا بد من تقديم الرواية الصحيحة والدقيقة. خلال استقبال الشرع لصحافيين من وسائل إعلام مختلفة، حضر بينهم أحد المراسلين اللبنانيين، وهو الذي اندفع إلى توجيه السؤال إلى الجولاني، بما معناه أن اللبنانيين يقبلون على انتخابات رئاسية وهناك بوادر للتوافق على اسم قائد الجيش جوزاف عون فما هو موقفكم. ليجيب الجولاني بأن سوريا تدعم ما يتوافق عليه اللبنانيون، وفي حال توافقوا على انتخاب عون فسوريا سترحب وتدعم وتتعاون. هذا الكلام لا ينفصل عن كل تصريحات المسؤولين السوريين في الإدارة السياسية الجديدة حول حرصهم على سيادة لبنان وعلى أحسن العلاقات وأفضلها. كان هذا حدود السؤال، ودقة الجواب الذي قدّمه الرجل، علماً أنه لم يكن في وارد تناول الملف اللبناني أو الدخول في تفاصيله، لو لم يكن ذلك بفعل استدعاء لبناني فرضه سؤال المراسل.
الثنائي الشيعي
بطبيعة الحال، بدأت تُغزل التحليلات الكثيرة حول ربط توقيت ترشيح جنبلاط لجوزاف عون، وزيارته المرتقبة إلى دمشق، وبتصريح الجولاني. علماً أن كل هذا الربط ليس دقيقاً وفي غير مكانه. لكن الأكيد أن المعركة الرئاسية قد فتحت على مصراعيها، وما أقدم عليه جنبلاط من شأنه زيادة منسوب الضغط على القوى السياسية للتوافق والتفاهم على إنجاز الاستحقاق الرئاسي. يقرأ جنبلاط طوالع الداخل والخارج، أقدم على خطوته بعد زيارته لرئيس مجلس النواب نبيه برّي وإبلاغه بالأمر. احترم الثاني موقف الأول وإن لم يكن يؤيده. خصوصاً أن برّي حريص على التفاهم مع حزب الله وعلى الخروج بموقف موحد من الانتخابات الرئاسية. فهو اليوم يريد أن يكون الانسجام تاماً بينه وبين حزب الله. يعلم الثنائي الشيعي كما غيرهما من القوى السياسية أن الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة هما المدخل الأساسي لإعادة الإعمار وحصول لبنان على مساعدات واستثمارات مبنية على الإصلاحات. تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى سوريا التي تواجه تحديات كبيرة يعرفها اللبنانيون والسوريون، ولا سيما أحمد الشرع الذي يتفرغ للتواصل مع مختلف فئات الشعب السوري، ومع رجال الأعمال والتجار، بالإضافة إلى لقاءاته الدولية والديبلوماسية، سعياً لرفع العقوبات عن سوريا وتحسين الظروف الاقتصادية. وهذا بحدّ ذاته أحد أبرز التحديات والموانع التي تدفع سوريا حالياً إلى الانصراف عن التفكير في التدخل بأي دولة أخرى، ولا سيما لبنان.
المرشحون العسكريون والمدنيون
تبني جنبلاط لترشيح جوزاف عون قد يكون خدمه في حال وافقت القوى الأخرى التي كانت تدعم ترشيح قائد الجيش، وفي حال تم الوصول إلى تفاهم مع الثنائي الشيعي، وبذلك تُتوج هذه المساعي في إنجاز الاستحقاق. أما في حال استمرت الخلافات، وتصاعدت الحملات داخل البيئة المسيحية بوصف عون مرشح من قبل غير المسيحيين، فإن ذلك سيفرض آلية جديدة للمقاربة والتعاطي. وحينها سيتركز البحث عن مرشح توافقي يحظى بثقة الداخل والخارج. ويمكنه أن يلبي كل الشروط والطموحات. وإن بقي الخيار محصوراً بين عسكريين، فإن الخيار الآخر بدلاً من عون سيكون مدير عام الأمن العام اللواء الياس البيسري. أما بحال تم الانصراف عن التفكير بعسكريين، فإن الأنظار ستتجه إلى إعادة إحياء خيار جهاد أزعور أو سمير عساف وهو المرشح الثابت والمدعوم بقوة فرنسياً. مهمة قائد الجيش
ما أعاد إبراز طرح جوزيف عون بقوة، هو التحولات السريعة التي شهدتها المنطقة، منذ الحرب على غزة وعلى حزب الله، وبفعل التداعيات السورية. هناك اتفاق لوقف إطلاق النار تم التوصل إليه، وثمة مهمة ستكون منوطة برئيس الجمهورية لتطبيقه كاملاً. في هذا السياق فإن جوزاف عون كقائد للجيش ومتفاهم مع الثنائي الشيعي ومع الأميركيين على آلية التطبيق، هو الشخص الذي يمكنه استكمال هذه المهمة من موقعه كرئيس للجمهورية. في المقابل، هناك جو لدى الثنائي الشيعي بأن التفاهم مع قائد الجيش قائم على تطبيق الاتفاق من موقعه كقائد للجيش وأن التمديد له لسنتين كان في سبيل إنجاز المهمة المحددة المطلوبة منه بوصفه قائداً للجيش. ومما يقوله الثنائي أيضاً أن التمديد الثاني لعون قد مرّ بثمانية وخمسين صوتاً، ولم يصل إلى الأكثرية المطلقة في المجلس النيابي التي تخوله الوصول إلى رئاسة الجمهورية. علماً أنه يحتاج إلى أكثرية الثلثين، وفق ما يؤكد رئيس مجلس النواب نبيه برّي لزوم تعديل الدستور.
في حال بقيت المهمة أمنية، فإن الأنظار ستتجه بعده إلى مدير عام الأمن العام، والذي هناك تقاطع داخلي وخارجي عليه أيضاً. أما في حال كان هناك تحول بوجهة المرشحين والتركيز على مهمة عون في قيادة الجيش لضبط الوضع الأمني وتطبيق اتفاق وقف النار، فإن الرئاسة والحكومة ستهتمان بالمجالات الاقتصادية والمالية والإصلاحية، وحينها ستعود الأنظار إلى جهاد أزعور أو سمير عساف.
السلطة الجديدة في لبنان وسوريا
بكل الأحوال، فإن السلطة الجديدة في لبنان أو سوريا ستقع بين يديها "الجمرات الكبار".
فمهمة الرئيس في لبنان إعادة المسيحيين إلى الدولة من خارج منطق الثنائيات أو الآليات الحزبية التقليدية، لتقديم إدارة ومقاربة سياسية لكل الملفات بشكل غير تقليدي، نظراً للتطورات التي حصلت. في سوريا، هناك أيضاً تحد كبير أمام الإدارة الجديدة في إشراك المسيحيين وكل المكونات بالعملية السياسية وفي وضع الدستور الجديد.
الجمرة الأخرى، تتركز على تثبيت الهدوء والاستقرار في الجنوبين السوري واللبناني، ومواجهة التحديات والمطامع وعمليات التوغل الإسرائيلية، عبر التطبيق الكامل للقرارات الدولية، الـ1701 في لبنان، والـ242 واتفاق فض الاشتباك في العام 1974 في سوريا.
الجمرة الثالثة، الدخول في برنامج إصلاحي شامل، سياسياً، إدارياً، اقتصادياً، ومالياُ.
الجمرة الرابعة، إنتاج سلطة قضائية مستقلة إصلاحية، غير خاضعة لكل منظومة المحسوبيات والولاءات.
الجمرة الخامسة، حصر السلاح في كلا البلدين بيد الدولة ووضع استراتيجيات دفاعية واضحة.
الجمرة السادسة، وضع برنامج واضح لإعادة الإعمار في كلا البلدين وبما يتقاطع مع العلاقات الإقليمية والدولية.
كل ذلك لا بد له أن يمرّ من خلال قناعة التعامل مع المستجدات والوقائع على مستوى المنطقة، وهو ما له انعكاسه بالنظر إلى وضع إيران مثلاً، التي تسعى إلى الاحتفاظ بمصالحها من خلال الدخول في حوار مع الأميركيين والأوروبيين، وعدم قطع خطوط التواصل مع دول الإقليم. وهو ما يُبنى وفق قواعد ورؤية جديدتين، على مبدأ التعاون والشراكة في المنطقة، ولكن ليس بقوة السلاح بل بناء على المصالح المشتركة والحضور السياسي.