تتغيّر في سوريا اليوم المشهديات المألوفة التي تربّت عليها أجيال من الشباب السوري، الذين عاشوا حقبة سوداء من حكم الحزب الواحد، الذي لم تعد آلياته وطرائقه مقبولة، أو لم تعد قائمة عملياً، إلا في كوريا الشمالية وأشباهها، من الدول التي لا تزال خارج مدار الزمن.
انقلاب المشهد في سوريا مما كان عليه، إلى مشهد نقيض، يستدعي حتماً انقلاباً في اللغة، والمعايير السياسية، و تبدلاً في خريطة التحالفات بين الأطراف المنخرطة في الميدان. ولا غرابة أن يصرّ البعض ممن هُزموا على التشبث، بما كانوا عليه من رموز وأفكار، دلالة على نكرانهم، لما استجدّ، ولما خالف منطقهم، ونظرتهم التي اعتادوا حسبانها من بديهيات الأمور وطبائع الأحداث. لحظة الخيبة هذه تجعلهم أمام مفترق طريق بين الماضي المنتهك، والمستقبل الضبابي، والحاضر المتسارع الإيقاع.(تمثال الاسد في دمشق)مشهد نصف قرن من التعسّف، وكمّ الأفواه المعارضة لخطّ الحكم المتفرّد والمتسلّط. نصف قرن من الغربة داخل السجون المعتمة، التي كان لها زمنها وطقوسها الدموية، وكان لها لغتها الخاصة، ومفرداتها المبتكرة التي تتداولها ألسنة المعتقلين الممتحنين عذاباً وقهراً. مفردات هي حصيلة التجربة المريرة في الأقبية والمسالخ البشرية، دفعت الراحل لقمان سليم، أن يوعز لبعض الأصدقاء الذين منّ عليهم القدر بالخلاص، والخروج من السجن الصغير، إلى السجن الكبير، للإتفاق مع معتقلين سابقين، على ترتيب معجم خاص عن صنوف العذابات، وتباريح الألم، والأوجاع التي عانوا منها وأقرانهم من السوريين واللبنانيين الكثر، فكانت ثمرة العمل الإحاطة بلغة السجن ومصطلحاته، تحت عنوان "مفاتيح السجن السوري" قبل أن تحطّمه قبضات الثوار السوريين، وتطلق سراح من بقي من المعتقلين حياً، أو شبه حي. ومع ذلك بقيت هذه اللغة ترنّ في آذانهم، وبقي طيف الزنازين الثقيلة الوطأة، يطبق على صدورهم.
في الأيام الأولى لتحطيم الخوف، بدأت محاولات تمهّد للاستيلاء الرمزي على مشهد الفضاء العام لسوريا ما بعد الأسد، من خلال استعادة الهتافات والأغاني الحماسية التي أطلقها المتظاهرون، في الموجة الأولى من الثورة، قبل انكفائها المؤقت ذاك الحين. وسرت الدعوة الشعبية الملحّة، إلى تغيير أسماء الطرقات والساحات والميادين والمراكز الحكومية، وتمزيق الشعارات التي رفعها الحزب الحاكم، والتشهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالألبومات الشخصية التي تركها الديكتاتور في منزله قبل فراره، والتي تتضمن صوره المبتذلة، وهو بملابسه الداخلية شبه عار، ما يدل على سمات نرجسية، لم تخطئها عين المراقبين والصحافيين، وأثارت التهكم لدى المتابعين على صفحات الفايسبوك والتويتر. ورأى فيها الزميل محمد الحجيري توظيفاً سياسياً.
أما المشهديات الاحتفالية بسقوط حكم آل الأسد الأكثر تواتراً، فهي تدمير المنحوتات والتماثيل الضخمة التي نُصبت في معظم ساحات المدن السورية، دون استثناء. ويذكر وليد بركسية أن عددها يناهز ثلاثة آلاف تمثال موزع على أنحاء البلاد.
وليس أمراً مستغرباً أن نرى اندفاعاً جماهيرياً لتدميرها، بل التفنّن بعملية إسقاطها. وقد سبق للبعض من هؤلاء أن حطّموا التماثيل والنصب في المناطق التي ثارت على الحكم الأسدي، قبل أكثر من عقد من الزمن. وقبل أن تعيدها الحكومة السورية إلى مكانها كاستعادة رمزية لسلطة، إن غابت فترة، فإنّ سطوتها حاضرة دوماً في الذاكرة. ورغم أنّ هذه التماثيل تفتقد إلى التشكيل الفني الراقي، ومفرغة من أية جمالية بصرية، فإنها هيمنت على الفضاء، بحكم الواقع الذي رسمته القيادة السورية لمسار سياسي اختطته، وسردية تاريخية فرضتها على أبناء سورية بمختلف أجيالهم ومراتبهم وأطيافهم.
وفي هذا الشأن تختلف عملية تدمير تماثيل الأسد الوالد والإبن، اليوم عما سبق من تحطيم قامت به داعش منذ سنوات، عند احتلالها مدناً سورية، إذ كانت تلك العملية نتيجة مفاهيم دينية متخلّفة عن العصر، ترى في التماثيل الجانب العبادي بوصفه كفراً وشِركاً بالله. أما ما يحصل اليوم فتُعزى عملية التحطيم إلى أسباب سياسية صرف، وعلى أيدي شعب تعرّض لاضطهاد مديد طوال نصف قرن من الزمن. وهو أمر مشهود عليه في حركة الشعوب الثائرة في كل ناحية ومكان، وكان سبق للثورة الفرنسية أن دعت عند انتصارها إلى تجريد البلاد من كل المعالم الأثرية، وتدمير الرموز الملكية، بموجب تشريع نيابي صدر عام 1792. فقُطعت رؤوس جميع تماثيل القديسين في كاتدرائية نوتردام دي باري، وأُشعلت النار في الأعمال النفيسة، ومُزقت اللوحات الفنية، وحُطّمت تماثيل القادة السابقين، باعتبار ذلك سلوكاً غايته محو تاريخ المهزومين. وبلغت هذه المغالاة حداً، أنه أُعيد صهر معدن البرونز الذي صُنعت منه التماثيل، وتحويله إلى مدافع لإطلاق المقذوفات. وكتبت jacqueline lalouette: إنّ التعامل مع هذه التماثيل البرونزية، يتمّ كما لو كانت كائنات من لحم ودم، فتُشنق او تُحرق، أو تُقطع رؤوسها، وتُمنح بطريقة ما وجوداً بيولوجياً. وكان القضاء عليها آنئذ يشفي الغليل، فتحطيم هذه الكتلة البرونزية التي تجسد صاحبها إذلال له، وتماثيله تموت معه أيضاً.
ومن المشهديات التي تزامنت مع هدم النُصب، وإزالة اللوحات التذكارية، كان استخراج جثمان حافظ الأسد وإحراقه. وإذا كانت ثمة محاذير دينية أو قانونية، تتطلبها عملية استخراج جثث الموتى من مدافنها، فإنّ بعضاً من هذه الحالات كان محدوداً، وتمّ لأسباب وطنية أو قومية، واكبتها مراسم ذات أبهة، أهمها في العصر الحديث، نقل جثمان نابليون بونابرت عام 1840 من جزيرة سانت هيلينا، لدفنه في منطقة ليزانفاليد، في عهد الملك لويس فيليب الاول، بعد ما كان الملك لويس الثامن عشر رفض نقله لتخوّفه عهد ذاك، من إمكانية تحوّل بونابرت لرمز قومي. وزعم الفرنسيون الذين حضروا إستعادة الرفات، أن الجثة كانت سليمة، وبحالة جيدة. وبالمقابل فإنّ التاريخ العربي والإسلامي يشهد على تخريب لقبور قادة المسلمين المتناحرين، وعلى التمثيل بجثث بعضهم بعضاً. وغالباً ما كانت الجثث تدفن ليلاً، أو في الفلوات البعيدة عن المدن والناس، حتى لا تطالها أيدي المناوئين والمتربّصين. وفي العصر الحديث كان التنكيل والإذلال في شوارع المدن، يجري دورياً بين الانقلابيين المتصارعين حول السلطة، كما في العراق واليمن والسودان. أما تخريب قبر حافظ الأسد وحرقه، فجاء ثأراً تلقائياً بأيدي من حفر لأهاليهم وأصدقائهم القبور الجماعية التي ما يزال العديد منها، لم يُكتشف مكانها. تخريب ربما لايُشفع له، من حيث مراعاة المبدأ الأخلاقي، لكن بالتوازي مع ما اقترفه نظامه الحديدي من بطش وتعذيب وتنكيل وقهر، فإنّ العدالة تأخذ حينذاك مجرى آخر.