تختصر الطائرة الإسرائيلية المسيّرة التي تحلق يومياً وباستمرار في الأجواء اللبنانية وفي أجواء العاصمة بيروت خصوصاً، حكاية الانكشاف الأمني، العسكري والسياسي في لبنان ودول المشرق العربي، وبالتحديد فلسطين، سوريا، والعراق. يستعيض الإسرائيليون بها في بيروت، ما يتوفر لهم من وجودهم وتوغلهم على قمة جبل الشيخ في سوريا، والتي يصفها مسؤولوهم بأنها "العيون" الجديدة لإسرائيل. لم تعد إسرائيل تخفي أهدافها وطموحاتها والتي تريد من خلالها تطويع دول المنطقة وسط غياب جدّي لأي تصدٍ أو مواجهة، لا سيما بعدما تعرضت الدول المذكورة إلى ضربات قوية من الداخل بفعل أزماتها وصراعات مكوناتها، ومن الإسرائيليين الذين أرادوا استهداف كل مرتكزات القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، ويسعون إلى تغذية المزيد من الانشقاقات الأهلية.
تطويع المنطقة
يريد الإسرائيليون تكريس سيطرتهم، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، من جبل الشيخ إلى طهران. في ظل هذا الانكشاف فإن لبنان وسوريا أمام دفاتر شروط إقليمية ودولية وإسرائيلية بالأخص، متلاحقة وضاغطة وهي دفاتر ليست متناسقة أو منسجمة، بل مختلفة ومتناقضة، في بعض الأحيان. من الشريط الحدودي في لبنان إلى الشريط الحدودي في الجولان، وإلى ما بين العراق وسوريا، أو ما بين سوريا وتركيا، يبدو البلدان ساحة لاندفاعات القوى الكبرى من الشمال ومن الجنوب، وهي بطبيعة الحال متنافسة على ملء الفراغ الكبير الذي نجم عن كل التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الحرب الإسرائيلية التي وضع لها عنوان تغيير الشرق الأوسط، ووجهت تل أبيب فيها ضربات قاسية ضد حزب الله، وإيران وحلفائها، وصولاً إلى سقوط نظام بشار الأسد. وسط غياب أي مشروع عربي، وعدم جهوزية البدائل لمواكبة المرحلة ومواجهة هذه الاعتداءات الإسرائيلية.
تبقى نقطة قوة المشروع الإسرائيلي هي في انهيار الوضع العربي، وسط تسريبات يومية في تل أبيب عن التصعيد ضد إيران، والاستعداد لتوجيه ضربة لها، والتباحث الذي حصل بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، علماً أن الإسرائيليين يعتبرون أن الطريق إلى ضرب إيران أصبحت مفتوحة، وذلك استناداً إلى توجيههم ضربات لحزب الله، وتحييد العراق. فقد أفقدوا طهران أوراق قوتها الإقليمية وهو ما تم تتويجه بالتحولات التي شهدتها سوريا بسقوط نظام الأسد، ويعتبرون أن الانقضاض عليها قد أصبح أسهل. في مقابل وجهة نظر أخرى تشير إلى أن التركيز في هذا المرحلة سيكون على توجيه ضربات للحوثيين في اليمن، والتأثير على الوضع العراقي من خلال إضعاف الحشد الشعبي وحلفاء طهران هناك. ما سيشكل المزيد من عناصر الضغط على إيران لدفعها إلى تقديم التنازلات المطلوبة لتجنّب الضربة العسكرية الأكبر. وبذلك يحاول الإسرائيليون اللعب على وتر عربي من خلال تقديم نتنياهو لنفسه بأنه يوجه ضربات للمحور الإيراني ويعمل على إنهاء نفوذ إيران في المنطقة، لعلّه بذلك ينجح في استبدال الشرط العربي ببناء دولة فلسطينية، بالارتضاء بضرب إيران وتقويض نفوذها وإضعاف حلفائها. أوهام التوسع
يقدّم الإسرائيليون عناوين كبيرة لمشروعهم والذي يُختصر بتغيير وجه الشرق الأوسط، أما بعض اليمينيين المتطرفين يغرقون في وهم القوة أيضاً، حول تغيير الحدود الجغرافية، وتكريس مطامع إسرائيلية تاريخية في جنوب لبنان أو جنوب سوريا، بالإضافة إلى التركيز على نظرية إسرائيل الكبرى من خلال محاولة تثبيت القواعد والوجود في قطاع غزة، والتركيز على ضم الضفة الغربية. بينما الواقع لا يشير إلى القدرة الإسرائيلية على التوسع الجغرافي وتثبيت النقاط والاحتلال. أما أوهام وأفكار التوسع لدى اليمين المتطرف فهي غير قابلة للتحقيق وهو ما يعرفه الإسرائيليون جيداً. لكن ذلك يحتاج إلى مشروع مضاد ومتكامل قابل لدحض كل الإدعاءات الإسرائيلية وإسقاط الأوهام.
يعلم الإسرائيليون أنه لن يكون بإمكانهم تعديل الحدود، في سوريا أو لبنان، لكن عمليات توسعهم تهدف إلى تحقيق نوع من التطويع الأمني والعسكري للبلدين، استدعاءً لتطويع سياسي مستقبلاً. فيما ذروة المشروع الإسرائيلي تتركز حالياً على ما يريدونه في قطاع غزة وفي الضفة الغربية من خلال إشغال العرب والمجتمع الدولي بخروقاتهم في لبنان، واعتداءاتهم في سوريا، وبملف إيران، لغض النظر عن ما تقوم به تل أبيب في فلسطين. بينما تغيب السلطة الفلسطينية عن أي مبادرة جدية لخوض نضال سياسي كبير ضد المشاريع الإسرائيلية، وبناء مشروع متكامل ما بين كل الفصائل والتنظيمات، والارتكاز على ما تبقى من قوة عسكرية لقوى المقاومة لأجل طرح مشروع المواجهة ضد ما يقوم به الإسرائيليون أو ما يطمحون إليه. وهذه مسؤولية كبرى على السلطة الفلسطينية وكل مكونات الشعب الفلسطيني، بدلاً من الانخراط في حرب أمنية ضد مجموعات المقاومة في الضفة، واستمرار الخلاف حول العناوين المتعلقة بكيفية إدارة قطاع غزة ومعابره. تأبيد المشروع الإسرائيلي
لطالما ارتكزت إسرائيل على الصراعات العربية العربية، والعربية الإيرانية، والصراعات الداخلية بين المكونات المختلفة داخل كل دولة لأجل تأبيد مشروعها وتوسيعه، وهو ما تحاول تكراره مجدداً على وقع ما تعتبره "إنجازات" حققتها ضد إيران وحلفائها، من خلال ترك الفراغ هو الطرف الوحيد القائم كبديل، وتسعى إلى تزكية الصراعات البينية داخل كل مجتمع أو دولة، بما لا يتيح بناء مشروع واضح المعالم يتناقض مع الرؤية الإسرائيلية. وهنا تبقى الخطورة في عدم انتاج قوى بديلة اجتماعياً وسياسياً قادرة على تقديم مشروع، وجاهزة لتقديم إجابات عن الكثير من التساؤلات والهواجس والتحديات. خصوصاً في ظل المخاطر الكبرى التي قد تنتجها الصراعات الإقليمية وانكسار التوازنات الإجتماعية الهشة وعدم القدرة على بناء مشروع نقطة ارتكازه الأساسية تعزيز مفهوم الدولة الوطنية والعمل في سبيلها، فدون ذلك ستبقى هذه الدول خاضعة لاحتلالات أو تأثيرات تبقيها مفتوحة أمام المخاطر الأكبر مثل الحروب الأهلية أو الانقلابات أو الثورات المضادة.