نشر"بنك أوف أميركا" تقريرًا حاول استشراف مستقبل الاقتصاد اللبناني والأزمة الماليّة، في ضوء المستجدات السياسيّة الأخيرة، وخصوصًا على مستوى نتائج الحرب على لبنان وسقوط النظام السوري. التقرير ينسجم مع الوجهة العامّة السائدة في توقّعات المستثمرين اليوم، والتي تترقّب إعادة ترتيب المشهد السياسي من جديد، وهو ما يمكن أن يحرّك مسار بعض الإصلاحات الاقتصاديّة المعلّقة منذ سنوات. غير أنّ التقرير لم يفرط، في الوقت نفسه، بالتفاؤل. فقد ترقّب أن يبقى السيناريو الإيجابي رهينة تحقّق بعض الشروط، ومنها تفاعل الطبقة السياسيّة المحليّة مع الواقع المستجد، وقدرتها على خلق "زخم إصلاحي مستدام". وحزب الله بالذات، بحسب التقرير، سيكون أمام معضلة قاسية.فرصة لإعادة التوازن؟يبدأ التقرير بتعداد العوامل التي تدفع البنك إلى توقّع احتمالات "إعادة ترتيب المشهد السياسي المحلّي". الحاجة الملحّة لإعادة الإعمار، واستقدام المساعدات الخارجيّة، قد تدفع الطبقة السياسيّة للتفاعل مع المجتمع الدولي. وهذا يشمل طبعًا الإصلاحات المنصوص عنها في شروط صندوق النقد الدولي، والتي كانت تواجه "معارضة واسعة عبر الطيف السياسي اللبناني" بحسب التقرير. أمّا سقوط النظام السوري، فهو عامل آخر يذهب بالاتجاه نفسه، كما يمكن أن "تساهم عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم في تخفيف الأزمات الاقتصادية الكلية."
لكن للتفاؤل حدود واضحة هنا. إذ لم تتضح بعد مدى قدرة حزب الله على مقاومة هذه التغيّرات، أو حتّى نيّته بهذا الخصوص، بالنظر إلى عدم اتضاح تداعيات الوضع في سوريا بعد. كما من المتوقع أن يكون لموقف الإدارة الأمريكية المقبلة تجاه إيران تأثير حاسم على مستوى نفوذ "حزب الله". لكن في المقابل، قد تتيح الانتخابات البرلمانية المقررة في منتصف عام 2026 فرصة لإعادة ترتيب المشهد السياسي، ضمن الإطار الدستوري. أمّا الطبقة السياسيّة، بمعناها الأوسع، فما زالت تأخذ الموقف المعارض نفسه لإصلاحات صندوق النقد الدولي، ولم تُظهر الليونة المطلوبة معها.
بين كل هذه العوامل، يحاول التقرير استشراف موقف حزب الله بالتحديد. الجانب الإيجابي الذي يذكره التقرير مثلًا، يتمثّل في إعلان الأمين العام الجديد للحزب، الشيخ نعيم قاسم، دعم الحزب لإعادة تفعيل الترتيبات الدستورية المؤسسية، ولا سيما الانتخابات الرئاسية المقررة في 9 كانون الثاني، معربًا عن "أمله في أن تُجرى كما هو مخطط لها". وهذا ما قد يعالج الجانب المتعلّق بعرقلة الاستحقاقات الدستوريّة. لكن من ناحية أخرى، قد يشير اقتراح حزب الله "مناقشة استراتيجية دفاع وطني" إلى عدم رغبته في نزع سلاحه، وهو ما سيشكّل إشكاليّة محليّة في المستقبل، خصوصًا أنّ جولات الحوار الوطني السابقة حول الاستراتيجية الدفاعية لم تسفر عن نتائج ملموسة.معضلة حزب الله والطبقة السياسيّةعند هذه المرحلة من البحث، ينتقل التقرير لمناقشة إحدى المعضلات التي تواجه حزب الله اليوم. فـ "مجموعة الخماسية" (الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر، وقطر)، أوضحت أن دعمها لاحتياجات إعادة الإعمار سيكون مشروطًا بالتزام السلطات بالإصلاحات التي يقودها صندوق النقد الدولي. وهذا ما يختلف عن الوضع بعد حرب تمّوز 2006، حين جمع مؤتمر ستوكهولم لإعادة التعافي المبكر للبنان في آب 2006 نحو 0.9 مليار دولار من السيولة فورًا.
بحسب التقرير، تُشكل احتياجات إعادة الإعمار الكبيرة معضلة لحزب الله. حيث يتعين على الحزب تقييم مدى تأثير غياب إعادة الإعمار على قاعدته الشعبية، مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في أيّار 2026. أمّا الطبقة السياسيّة بشكل عام، فقد تخشى من بعض الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، وخصوصًا في إطار عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. بين عاملي الضغط، ثمّة خيارات صعبة أمام حزب الله.
يستند التقرير إلى أرقام البنك الدولي، الذي قدّر حجم الأضرار الماديّة نتيجة الحرب بنحو 3.4 مليار دولار، أي ما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب التقرير، يتركّز أكثر من 80% من هذه الأضرار في قطاع الإسكان، وفي المناطق ذات الأغلبية الشيعية. وهذا ما يعيد التصويب على الإشكاليّة التي يوجهها حزب الله امام بيئته حاليًا. وهنا، يعيد التقرير التذكير بتجربة انفجار مرفأ بيروت، حين تراوح حجم الأضرار ما بين 3.8 و4.6 مليار دولار، من دون أن تبادل الطبقة السياسيّة إلى أي إصلاحات لاستقدام المزيد من مساعدات إعادة الإعمار.
ورغم وجود تجربة انفجار المرفأ المثيرة للتشاؤم، يعيد التقرير التذكير بأن تصرفات حزب الله وحلفائه تشير إلى محاولته "تقليل استياء قاعدته الشعبية والسيطرة على توزيع المساعدات قدر الإمكان." وهكذا، يتطرّق "بنك أوف أميركا" إلى التعويضات الأخيرة التي أعلن تقديمها الأمين العام للحزب نعيم قاسم، وموافقة مجلس الوزراء على تخصيص مبالغ ماليّة لدعم النازحين في جنوب لبنان.كلفة التأخّر في إعادة هيكلة الدين العامبين شروط المجتمع الدولي، ومقاومة الإصلاحات الماليّة محليًا، ثمّة تجاذب قائم. لكنّ التقرير يشير إلى قنبلة موقوتة، لا يمكن التعامل معها في ظل الفراغ القائم في المؤسّسات الدستوريّة. في آذار 2025، من المتوقع أن يخسر حاملو سندات اليوروبوندز حقوقهم في المطالبة بفوائد الاستحقاقات المتأخرة، بعد مرور 5 سنوات على تخلّف الدولة عن السداد. وهذا ما يفرض عليهم تحريك المطالبات القانونيّة بهذه الفوائد، قبل الوصول إلى هذا الاستحقاق.
على غرار ما حدث في فنزويلا عام 2023، يشير التقرير، يمكن لمجلس الوزراء اللبناني تمديد مدة شرط التقادم، لمحاولة تلافي استقبال المطالبات القانونيّة. ولكنّ وجود حكومة تصريف أعمال، قد يعرّض هذه الخطوة للطعن من الناحية الدستوريّة، فيما يتحاج اتفاق من هذا النوع إلى مصادقة المحاكم الأميركيّة في نيويورك. في جميع الحالات، يتناول التقرير احتمالات تقدّم الدائنين بدعاوى ضد الدولة اللبنانيّة، مرجّحًا عدم تمكّنهم من مصادرة أي أصول سياديّة لبنانيّة في الخارج، غير أن استحصالهم على أحكام قضائيّة قد يعطيهم أفضليّة مقارنة بالدائنين الآخرين.ماذا سيتبقى من الدين العام؟في خلاصات التقرير، يبحث البنك في قيمة الاسترداد، التي يفترض أن يتوقّع حملة سندات اليوروبوند الحصول عليها بعض إعادة هيكلة الدين العام. ففي النتيجة، من المتوقّع أن تخضع هذه السندات إلى اقتطاعات معيّنة من قيمتها، قبل إعادة جدولتها وفق استحقاقات جديدة. بنظر التقرير، تتماشى أسعار السندات الحاليّة مع نطاق قيمة الاسترداد التي توقّعها البنك سابقًا، أي عند حدود الـ 10-15 سنت للدولار. ويمكن أن ترتفع قيمة الاسترداد في المستقبل، في حال تمكّنت الدولة اللبنانيّة من تحسين الأداء المالي الخاص بها.
لتحقيق استرداد يتجاوز 20 سنتًا لكل دولار، سيكون من الضروري توافر "مسار متفائل للناتج المحلي الإجمالي الاسمي"، أي تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي. كما يفرض ذلك اعتماد سريع لبرنامج صندوق النقد الدولي، مع الحصول على تمويل الصندوق بحلول نهاية 2025. وفي الوقت نفسه، يتطلب ذلك إتمام إعادة هيكلة سندات اليوروبوند بحلول نهاية 2025، مع بدء دفع كوبونات الفوائد بعد ستة أشهر. الشروط التي يذكرها التقرير لرفع قيمة الاسترداد إلى هذا الحد (20 سنت للدولار)، تبدو -وبشكل صريح للغاية- غير واقعيّة، وهو ما يرجّح توقّعاته الراهنة بالنسبة لقيمة الاسترداد المتوقّعة (10-15 سنت للدولار).
في خلاصة الأمر، إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه الآن، أي من دون إعادة هيكلة الدين أو اقتطاع جزء من قيمة السندات، يتوقّع التقرير أن يصل الدين العام إلى حوالي 55 مليار دولار أمريكي، ما يعادل 210% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية عام 2025. وهذا ما سيتحقّق بفعل تراكم قيمة الفوائد، على السندات غير المسددة، مع استقرار حجم الناتج المحلّي عند حدود الـ 26 مليار دولار أميركي، بحلول هذا التاريخ.