من أين أتى كل هذا الشر الذي خيم على سوريا لعقود؟ في سبيل تبرئة عموم السوريين، ينسب إلى طائفة بعينها، أو إلى حزب البعث والذي له سجل في العراق المجاور يعزز تلك الصلة، أو بأكثر درجات الاختزال ينسب إلى عائلة أو أسرة وأحياناً إلى فرد واحد. كون السوريين في مجموعهم، وباختلاف طوائفهم وطبقاتهم وانتمائهم، هم ضحايا هذا الشر المطلق العابر للتمييزات والفوارق، وكونهم ضحايا نصف قرن من معايشة التروما بوصفها روتيناً يومياً، كان من المتعذر أحياناً تصوّر أنفسهم طرفاً في هذا الشر أو حاضنة له.هكذا، يتطلب الإنكار أن يكون أصل الهول السوري أما أقلوياً وعائلياً وفردياً، أو غريباً ودخيلاً وأجنبياً. بمجرد هروب بشار، خرجت التحقيقات الصحافية لتفتش في الأصل "النازي" للهول الأسدي. والحال أن تلك النسبة النازية ليست على سبيل المجاز، بل هي مقاربة حرفية ترجع بمؤسسات الرعب التي خبرها السوريون جيلاً بعد جيل إلى عدد من الضباط النازيين ممن فروا إلى سوريا بعد الحرب العالمية الثانية. بين روايات عدة تشير إلى الخارج، تحدد واحدة منها زمن الوحدة القصيرة مع مصر على أنها فترة الاختمار لتك الوحشية التي تعلم السوريون مبادئها الأولى من ضباط النظام الناصري.
وبغض النظر عن سؤال أصل الشر ذي الوقع الأقرب إلى اللاهوتية، وبغض النظر عن إجابته، فإن ما لا شك فيه أن المثال السوري قد صار مصدر إلهام لأنظمة المنطقة تارة وترويع شعوبها تارة أخرى. فعلى خلفية من مشهد يمتلئ برؤوس مقطوعة من أول بن علي تونس إلى بشير السودان، نجا بشار بعنقه الطويل أكثر من اللازم من مقصلة ثورات الربيع العربي وموجاتها المتتابعة. نجا وأدخل معه المنطقة إلى عصرها الإبادي الجديد. ما أثبته قمع الثورة السورية بحصيلة أكثر من نصف مليون قتيل وملايين من المهجرين واللاجئين، هو أن الوحشية المطلقة مجدية وناجعة. من ذلك المثال، ما استنبطه نظام الثلاثين من يونيو في مصر هو أن خطأ مبارك لم يكن القمع بل خفة القمع. وبدا وكأن الجمهورية المصرية المسماة بالجديدة تحاول أن تتماهى مع النموذج الأسدي وتنسخ منظومته، التأسيس على مذبحة وتعميم الرعب وتوسيع قاعدته، كل هذا تحت مظلة الحكم بالعنف وحده.وفي ذلك السياق شهدت القاهرة ظاهرة الاختفاء القسري، وأضحى اختفاء أسر بأكملها مع أطفالها حدثاً عادياً. النسق الاحتلالي للأسدية، أي أن يكون النظام الحاكم نظام احتلال كناية وفعلاً باستدعاء احتلالات خارجية معه، يوجد ما يشبهه في دول عربية أخرى، حيث يتم مقايضة التراب الوطني بالسيولة النقدية اللازمة لاستمرار النظام. بإيجاز، صارت معادلة تدمير الدولة لصالح النخبة الحاكمة معادلة معقولة ومجربة. حتى القوى الإقليمية التي دعمت إسقاط الأسد في البداية، بدت أنظمتها وكأنها تضمر إعجاباً بالنموذج الأسدي، ومن ثم سعت لإعادة تأهليه وإدماجه في المنظومة الإقليمية مرة أخرى.
لكن المثال السوري في تطرفه لا يمكن تصوره سوى أنه سينقلب إلى نقيضه. التهاوي السريع للنظام الأسدي وبلا مقاومة تقريباً، كان بمثابة زلزال هز المنطقة بأكملها. وفي عواصم عربية عدة لا يمكن إخفاء القلق. فالنموذج الأسدي قابل للانهيار فجأة، وتأثير الدومينو له سوابق قريبة. هكذا، يجتمع الرئيس السيسي بعدد من الإعلاميين المقربين ليغسل يديه من الدماء أمام الجمهور، مصرحاً بأنه لم يلطخهما بالدم، ولم يمدها على أموال الغير.بالنسبة للقوى الإقليمية، إن كان وصول الإسلاميين إلى الحكم عبر صندوق الانتخابات بعد الربيع العربي أمراً مثيراً للذعر، ودفعها لدعم الثورات المضادة في دول الإقليم، فإن وصول الإسلاميين إلى دمشق على ظهر دبابة أو بالأحرى على ظهر دراجة بخارية، يجعل من سوريا نموذجاً كابوسياً يجب إجهاضه، أو على الأقل الانتقال من التعويذة المحفوظة "مش أحسن من سوريا والعراق" إلى تعويذة أخرى هي: "مصر ليست سوريا".