منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، فرض رشيد مشهراوي اسمه كأحد رواد الجيل الثاني للسينما الفلسطينية بعد النكبة، وأحد أوائل السينمائيين النشطين من داخل غزة (نشأ في "مخيّم الشاطئ" لعائلة أصلها من يافا). بدأ هذا المسار بأول أفلامه القصيرة، المنجزة بعد فترة وجيزة من ظهور ميشيل خليفي، وقبل وقت طويل من وصول إيليا سليمان وكمال الجعفري إلى الاهتمام الدولي الذي ما زالت تشهده أعمالهما، ثم استمر طيلة 30 عامًا تقريباً مخرجاً ومنتجاً ومعلماً، بتأسيسه مركز الإنتاج والتوزيع السينمائي في رام الله بالضفة الغربية، وهي مؤسسة ولدت بهدف محدّد: العمل في الأراضي المحتلة، أولاً لإعطاء الشباب الفلسطينيين الفرصة لتعلّم وتجربة أيديهم في الفن السابع، ثم عرض أعمالهم في دور سينما متنقلة، في بلد شبه خال من الصالات السينمائية. وجال مشهراوي في مخيمات اللاجئين، حتى أنه نظّم مهرجاناً صغيراً لأفلام الأطفال لإعطاء الصغار بضع لحظات من الهروب والأمل."من المسافة صفر"(*)، المعروض أخيراً في مهرجان القاهرة السينمائي، يكمل هذا المسعى، عبر إعطائه صوتاً لقطاع غزة في فيلمٍ جماعي مكوّن من 22 مقطعاً/فيلماً قصيراً صوّرها وكتبها وأخرجها سينمائيون ومخرجون وفنانون في قطاع غزة عاشوا الأحداث من قرب وجهدوا لإيجاد منظور شخصي وشكل سينمائي لسرد الرعب اليومي للحرب والحاجة إلى إعادة اكتشاف الأمل.ولئن كان ميلاد "من المسافة صفر" بمبادرة من السينمائي الفلسطيني لإنجاز مجموعة أفلام تسجيلية من داخل غزة، أثناء حرب الإبادة الدائرة بحقّ غزة وأهلها، إلا أن معناه وأهميته يتجاوزان مجموع أجزائه. فهذه متتالية فيلمية توثيقية منجزة بالنار والدمّ والعظم العاري، تحفظ ذاكرة وتؤكّد حياة وتمنع إلغاءً. مخرجو "من المسافة صفر"، الذي رشّحته فلسطين لتمثيلها في جوائز أوسكار2025، هم: ندى أبو حسنة، وكريم ستوم، وبشار البلبيسي، ومهدي كريرة، وأوس البنا، وهناء عليوة، ونضال دامو، واعتماد وشاح، وعلاء دامو، وريما محمود، ومحمد الشريف، وخميس مشهراوي، وإسلام الزريعي، وباسل المقوسي، ومصطفى النبيه، وأحمد الدنف، ووسام موسى، وآلاء إسلام أيوب، وتامر نجيم، ورباب خميس، ومصطفى كلاب، وأحمد حسّونة.عمل جماعي مهم ولافت من نواحٍ عديدة، يتألف من 22 فيلماً قصيراً مستقلاً تماماً، ولكل منها خصوصيته (في العنوان، والنوع المرجعي، واللغة، والمنظور) والتي من خلالها يقدّم مخرجون غزّيون شهاداتهم الخاصة، ونُسَخهم من الحقائق والقمع، وقراءاتهم في يوميات إحتلال يعود، منذ نكبة 1948 فصاعداً، بشكل دوري لتدمير المنازل والحياة والأُسر والآمال. وذلك ليس عبر اختيار سينما ذات شكل نضالي بالضرورة (لا أحد، طوال مدة الفيلم، يذكر حماس أو إسرائيل بشكل علني)، بل عبر سينما ذاكرة، وإعادة كتابة للتاريخ، ومحاولات يائسة للعودة إلى الحياة الطبيعية، وتحرّر من خلال وجهة النظر والزخم الفني.سينما مُلحّة تعبيرية خالصة، من بين الركام والدمّ، تطرق أبواب العالم لاستعادة وجود شعب يعاني، وبراءة مدنيين وأطفال، وكرامة مهدورة - وفي بعض النواحي أيضاً هوية، اختنقت بفعل أهوال حرب مجرمة ووسائل إعلام متعامية وصمت فني - لبشرٍ "خطأهم" الوحيد أنهم ولدوا في الشريط الخطأ من العالم، ولهذا السبب هم مهدّدون بالاختفاء من التاريخ وروايته.
حتى المستوى المتفاوت نسبياً للأفلام القصيرة الفردية لا يهمّ كثيراً (بالطبع بعضها أفضل صنعاً وتنفيذاً من بعضها الآخر لكن مَن يستطيع لوم أشخاص يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة وفي الوقت نفسه يوثّقون أهوالاً يعيشونها يومياً؟). لكنها قبل كل شيء تستند إلى أفكار قوية، يختلف تناولها وقوته من سينمائي لآخر. ما يهمّ هو وجودها ذاته، وتركها بصمة وإرثاً، وإعطائها صوتاً سينمائياً لمن لا يملكون حتى سينما في الأساس. هو ماراثون صغير، مرهق بالضرورة مثلما هو مرهق أن تعيش كل يوم مع القنابل والنزوح، من 22 قصة (مصغرة) تحكي في الواقع مأساة واحدة، ووجوهها وتفرّعاتها المحتملة، والاستعارات المحتملة التي يمكن أن تغلّف يأسها، والصعوبات اليومية، وفقدان كل شيء، وحزناً لا يُحتمل. لكنها أيضاً تقول شيئاً عن المقاومة، والحاجة إلى التطلع قدماً، والتشبثّ ببصائص الأمل الأخيرة، واللعب، والأحلام، والخيال، والسينما.قد تكون هذه رسالة إلى غريب توصل إلى البحر في خوف يومي من الموت ("سيلفي" لريما محمود)، أو رسالة وداع واعتذار للفن السابع من طغيان الحاجة إلى إنقاذ الأسرة على لائحة الأولويات ("عذراً سينما" لأحمد حسونة)، وغيرها من قصص ومجازات "من المسافة صفر". قد تكون عن شقيق (وأبّ) يُبحث عنهما حفراً بين الأنقاض أثناء محاولة يائسة للاتصال بهاتفٍ نفدت بطاريته ("خارج التغطية" لمحمد الشريف)، أو طفولة مسلوبة بفعل الحرب تجعل الأمهات يكتبن أسماء أطفالهن على أجسادهن خشية ضياع هويتهم وسط الأشلاء ("جلد ناعم" لخميس مشهراوي). قد تكون هذه قصص معلّم يأبى مساعدة طالب سابق في وقت أصبح فيه العثور على الطعام والماء والكهرباء لشحن الهاتف أمراً مستحيلاً ("الأستاذ" لتامر نجيم). أو على العكس تقريباً، قصة طالب يافع، يذهب كل يوم حاملاً كتبه الدراسية للوقوف على قبر معلّمه الذي قُتل بقصف طائرة مسيّرة ("يوم دراسي" لأحمد الدنف).قد تكون توثيقاً لفقد مزدوج، كما في حالة فرح ("مريم وفرح" لوسام موسى) التي استشهد خالها وزوجته وأبناؤه وعدد من النازحين، لتتلقى بعده نبأ قصف منزل صديقتها مريم ووفاة عائلتها. أو ربما نجاة ثلاثية مثل الهدف البشري الذي يقول إنه نفد بجلده ثلاث مرات في يومٍ واحد ("24 ساعة" لعلاء دامو)؛ أو تخييلاً بحتاً مثلما في قصة الحب المفقود بلا رجعة في فيلم "جاد وناتالي" لأوس البنا، أو صدى المكالمات الهاتفية "الحيّة" للتفجيرات في لقطة ثابتة في فيلم "صدى" لمصطفى كلاب، أو لحظات الخوف العائدة في فيلم "فلاش باك" لإسلام الزريعي، أواستمتاع أحدهم بالنوم داخل كيس بلاستيكي بينما لا يزال على قيد الحياة في فيلم "جنة الجحيم" لكريم ستوم.ثم مرة أخرى الفيديو الموسيقي ("سحر" لبشّار البلبيسي)، والتجريب البصري الخالص ("شظايا" باسل المقوسي)، والميتا سينما لفيلم "لا" حيث ترفض هناء عويضة كل قصة حزينة، وتبحث بدلاً من ذلك عن آخر شرارات الفرح، الرسّامة العائدة إلى مرسمها المدمّر بحثاً عما تبقى من أعمالها الفنية ("خارج الإطار" لنداء أبو حسنة)، وحتى مسرح العرائس (الفيلم الرائع "الصحوة" لمهدي كرير)، وفيه يستيقظ أبّ، بعد غارة إسرائيلية ليجد نفسه مستعيداً ذاكرته وهويته (وزوجته الحبيبة، وابنه الذي لم يدركه أبداً) بعدما فقد ذلك كله خلال قصف آخر في 2014، حتى الكشف النهائي عن حقيقة الوجوه وما خلفها، وذلك الخيال المسرحي الذي يبدو الطريقة الوحيدة الممكنة لإعادة البناء من بين الأنقاض.قصص تحكي الحاضر بنسختيه، ما قبل وما بعد، مروراً بساعات الانتظار في طوابير الاستحمام العام قبل الاستعداد لأداء عرض كوميدي في خيام النزوح، وتشجيع الناس على البقاء أحياء ("كل شيء على ما يرام" لنضال دامو)، أو تتأمّل في بشر صاروا مجرد أرقام (ضحايا) من يافا إلى غزة ومَن يدري إلى أين بعد ذلك ("قرابين" لمصطفى النبيه)، أو تُطلعنا على شهادة مأسوية تقطعها ضوضاء عربة مرتجلة تجرّها بغلة اسمها ونيسة ("تاكسي ونيسة" لاعتماد وشاح). ثم مرة أخرى عودة للمياه المقننة وغير الآدمية في فيلم "إعادة تدوير" لرباب خميس، لاستخدامها أولاً لاستحمام الأطفال، ثم الملابس، ثم الأرضيات، وأخيراً لسقي النباتات أو لسحب السيفون؛ أو للحنين إلى تلك الكتب المتروكة في البيت لحمل الضروريات فقط أثناء رحلة النزوح داخل غزة ("عبء ثقيل" لآلاء أيوب)، من دون إدراك أن الأعباء الأثقل ستكون الألم والقمع.ولكن ربما ندرك بالفعل أن السينما، بطريقة ما، قادرة على محاولة علاجها عاجلاً أم آجلاً، أو على الأقل ستسمح بإعادة تصوّرها وروايتها وعرضها على العالم. مثل صرخة من تحت الأنقاض: غزة تعاني، لكنها لا تزال حيّة. في كل شهادة، في كل نبضة فنية، في كل قصة، مختلفة دائماً ودائماً هي نفسها، في كل موهبة شابّة تحتاج فقط إلى فرصة للتفتّح. في كل صوت ربما ضاع في الريح، والآن وإلى الأبد يتألق في الشاشة. الأمر متوقف على المشاهدين في معرفة كيفية الاستماع والتعاطف والمعاناة والفهم والغضب. ومعرفة "الجانب الآخر من الأمور" حقاً. وربما التأثر أحياناً بقدرته على التطلّع إلى المستقبل رغم كل شيء._________________(*) اختير المشروع السينمائي الجماعي "من المسافة صفر"، ضمن اللائحة الأولى للمنافسة على الأوسكار والتي تضمنت 15 فيلماً دولياً. ومن المنتظر إعلان اللائحة المختصرة للمسابقة في 17 كانون الأول 2025، وستقام حفلة إعلان وتوزيع الجوائز في 2 آذار 2025 في مسرح دولبي في لوس أنجلوس.وشارك الفيلم في مهرجانات دولية عديدة خلال العام 2024، وحصد العديد من الجوائز المرموقة.وكانت شركة ميتافورا للإنتاج الفني من أولى الشركات التي بادرت للدخول في شراكة إنتاجية في هذا المشروع منذ انطلاقته على يد المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. وتجمع هذه الأفلام القصيرة بين الروائي والوثائقي والتحريكي. ويروي مخرجوها تجاربهم الخاصة أو تجارب غيرهم وقصص فقدان منازلهم وعائلاتهم وتهجيرهم منذ بداية العدوان الإسرائيلي.