على مدى 14 عامًا من الثورة والحرب في سوريا، دعمت الجمهورية الإسلامية في إيران نظام بشار الأسد بكل الأشكال الممكنة، بدءًا من الدعم العسكري والأمني المباشر، وإرسال مستشارين عسكريين من الحرس الثوري الإيراني وميليشيات موالية لإيران من منطقتي الشرق الأوسط ووسط آسيا، إلى إنشاء وتنظيم وتدريب ميليشيات محلية موالية للنظام، وتوفير الإمدادات اللوجستية والأسلحة والذخائر والمعدات. كما قدمت إيران دعمًا سياسيًا مطلقًا عبر تبني الرواية الرسمية للنظام في حربه ضد أكثر من نصف الشعب السوري الذي أعلن جهارًا معارضته. وقد تبنت إيران شعار "الحرب على الإرهاب" تارة، وحوّلت الصراع إلى "صراعٍ بين السنّة والشيعة" على عدة مستويات خطابية تحريضية تارة أخرى، مما أدى إلى تأجيج المخاوف الوجودية لدى الطائفة الشيعية بهدف توسيع دائرة التجنيد. وصولًا إلى الدعم المالي الكبير لتوفير الاحتياجات الأساسية للنظام، والذي أتى معظمه على شكل ديون عبر قروضٍ ومنح مالية بشروطٍ معينة للسداد، لم يقتصر تأثيرها على مجريات الحرب بل امتد إلى المس بالسيادة السورية على الأصعدة السياسية والقانونية والاقتصادية والمعيشية.
بلغت العلاقات الاقتصادية بين إيران ونظام الأسد مستوى التداخل الكلي مع المصلحة الجيوسياسية للطرفين، حيث فعّلت إيران خطوط الائتمان لتزويد الأسد بما يحتاجه نظامه من النفط والمواد الأساسية من أجل البقاء، إضافة إلى استثمارات إيرانية طويلة الأجل في قطاعات مختلفة، حيث عوّلت إيران على المشاركة في عملية إعادة الإعمار. لكن كل ذلك أتى على حساب الاقتصاد السوري الذي سقط في فخ التبعية البنيوية لإيران بعد تراكم الديون، كما ترك إيران في وضعية سياسية واقتصادية غير مريحة. إذ لم يعد معروفًا كيف ستتعامل الحكومات السورية الجديدة مع هذه الديون: هل ستلتزم بسدادها، أم ستعتبرها ديونًا كريهة أو غير شرعية، أم ستطلب إعادة التفاوض حولها، أم ستحولها بالفعل إلى استثمارات إيرانية في مشاريع إعادة الإعمار؟ لا توجد أجوبة واضحة بعد على هذه الأسئلة، كما لا توجد أرقام موثقة ونهائية لديون سوريا لإيران منذ عام 2011، فقد تراوحت التقديرات بين 30 مليار دولار أميركي بحسب مصادر نيابية إيرانية، إلى 50 مليار دولار أميركي بحسب تقرير سرّبته مجموعة من القراصنة المعارضين للنظام في إيران تحت اسم "انتفاضة حتى إسقاط النظام" بعد اختراقها موقع الرئاسة الإيرانية.بنية شبه كولونيالية؟رغم التحول السريع الذي شهده الموقف الإيراني الرسمي تجاه الأوضاع السياسية في سوريا في اليوم التالي لإسقاط نظام الأسد، بدءًا من إعلان وزارة الخارجية الإيرانية بتاريخ 8 كانون الأول 2024 "احترام وحدة سوريا وسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها"، وتأكيد أن "تحديد مصير سوريا واتخاذ القرار بشأنها هو مسؤولية الشعب السوري وحده، دون تدخل مدمر أو فرض خارجي"، وتوقع أن "تستمر العلاقات بين البلدين على أساس المصالح المشتركة"، وصولًا إلى إعلان السفير الإيراني في سوريا بتاريخ 15 كانون الأول 2024 عن "استئناف السفارة الإيرانية لعملها في سوريا قريبًا"، إلا أن الحجم المالي المتزايد لخط الائتمان الإيراني-السوري يفرض تغليب المصلحة الإيرانية في سوريا، على قاعدة بنية "شبه كولونيالية" تقوم على علاقات تبعية طويلة الأمد. أما إعادة إنتاج هذه العلاقة التبعية فهي مرهونة بطبيعة القرارات التي ستتخذها الحكومات السورية الجديدة، رغم "اختفاء" النخبة السورية الكومبرادورية المستفيدة بعد سقوط النظام.
كان المسار الحتمي للاقتصاد السوري هو أن يصير ملحقًا بالكامل لمصالح إيران مع تعمّق العلاقة بين النظام وإيران بسبب الحرب السورية، لكن تفاقم صراع الأجنحة الروسي-الإيراني ضمن مناطق سيطرة نظام الأسد من جهة، وتزايد الضغوط على النظام من قبل باقي القوى المعادية له، سورية أم أجنبية كانت، من جهة أخرى، قبل أن تُسقِطه المعارضة المسلحة في عملية عسكرية خاطفة دامت 11 يومًا، حال دون ذلك.تشريح الديون المترتبة على سوريا لصالح إيرانبحسب التقرير الذي سربته مجموعة القرصنة الإيرانية المعارضة "انتفاضة حتى إسقاط النظام"، فإن 18 مليار دولار أميركي هو المبلغ الذي اتضح مصيره فقط من أصل 50 مليار استثمرت في الحرب السورية. وتنقسم مطالب إيران من سوريا إلى عسكرية ومدنية تتضمن دفعات مالية مباشرة، في حين يعود معظم المبالغ المستحقة إلى صادرات النفط الخام الإيرانية إلى سوريا، حيث بلغت حوالي 100 ألف برميل يوميًا، بمعدل 3 ملايين برميل شهريًا، أي بما تتراوح قيمته بين 150 مليون دولار و180 مليون دولار شهريًا، إذا افترضنا أن سعر برميل النفط الخام الإيراني يتراوح بين 50 و60 دولارًا.
ويتضمن التقرير المسرّب ثمانية مشاريع، ثلاثة منها لم يُحدد موعد تنفيذها، بينما لم يتم تحديد مشروعين بعد. ومن المتوقع أن تسترد إيران مستحقاتها وفق جدول زمني مدته 50 عامًا. إجمالي الاستثمارات المطلوبة لهذه المشاريع يبلغ 947 مليون دولار، مما يُتوقع أن يسهم في تسوية 17.9 مليار دولار من ديون سوريا لإيران.ديون بغيضة؟في حديث خاص أجرته "المدن"، أشار الأستاذ في جامعة لوزان الأكاديمي السوري جوزيف ضاهر إلى أن "العلاقات التجارية بين سوريا وإيران كانت ضعيفة قبل الانتفاضة السورية، حيث قدرت التجارة بين البلدين بحوالي 300 مليون دولار في عام 2010. ومع اندلاع الانتفاضة ضد نظام الأسد، قدمت إيران مساعدات مالية كبيرة للنظام، شملت قروضًا تصل إلى 7.6 مليار دولار بين عامي 2013 و2017، بالإضافة إلى شحنات نفطية قيمتها 10.3 مليار دولار بين 2013 و2018."
وأوضح ضاهر أن تقديرات الديون السورية لإيران تتراوح بين 16 مليار دولار و50 مليار دولار، وأن "أي مطالبات إيرانية محتملة لدمشق بسداد الدين ينبغي تعليقها إلى أن تقوم حكومة سورية منتخبة ديمقراطيًا في المستقبل بتشكيل لجنة مسؤولة عن إجراء تدقيق كامل لديونها العامة، بما في ذلك ديونها الخارجية لإيران."
كما أشار إلى أن الدين العام السوري قد تجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2015، وأن الدين العام الخارجي كان يمثل 60% من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك الوقت، مقارنةً بـ 9% فقط في نهاية عام 2009، ويعود سبب هذا الارتفاع في الدين العام الخارجي بنسبة 51% إلى خط الائتمان الإيراني بين عامي 2011 و2015.
وأشار ضاهر إلى نقطة مهمة يمكن أن تتخذ منها الحكومات السورية المستقبلية عنوانًا لرفض سداد الديون المستحقة لإيران بعد إجراء تدقيق شامل للديون العامة، حيث قال إن الجزء الأكبر من هذه الديون قد يكون غير شرعي أو "بغيض"، إذ "تم استخدامها لدعم نظام الأسد في قمع المعارضة".