ثمة تداعيات إقليمية وحتى دولية هائلة لسقوط نظام الرئيس الملوع بشار الأسد في سوريا. سيترك هذا السقوط تداعيات وتأثيرات كبيرة ومباشرة على القضية الفلسطينية، ما يستدعي بالضرورة إجراء قراءة للعلاقة بين النظام والقضية بشكل عام، لتبيان أهمية سقوطه أخلاقياً وتاريخياً وفكرياً وسياسياً واستراتيجياً.
بداية، لا بد من الإشارة إلى عمق الحضور السوري في فلسطين باعتبارها جنوب سوريا أصلاً – كانت ثمة صحيفة تصدر في فلسطين بهذا الاسم في الأربعينيات قبل النكبة - ومع اتضاح خطورة المشروع الاستعماري الصهيوني، كان الحضور السوري بارزاً في فلسطين، أولاً، عبر الجنرال فوزي قاوقجي، ثم عبر الشيخ عز الدين القسام وآلاف المتطوعين في فلسطين باعتبارها قضيتهم أيضاً.
بعد الاستقلال كانت سوريا المدنية الديمقراطية حاضرة وفاعلة في تأسيس الجامعة العربية، التي كان أحد أهم أسباب وحيثيات تأسيسها مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين.
وبعد النكبة، استقبلت سوريا المدنية الديمقراطية - بعلمها الشامخ والظافر - اللاجئين الفلسطينيين وعاملتهم كالمواطنين السوريين، مع إعطائهم كافة الحقوق المدنية باستثناء السياسية، ولكن مع تأسيس جيش التحرير الفلسطيني لتمكينهم من القيام بواجبهم في معركة تحرير فلسطين العربية الجامعة.
حصل كل هذا قبل أن يصل نظام آل الأسد إلى السلطة، عاكساً المسار برمته، كونه تعاطى ككل أنظمة الاستبداد والفساد، مع القضايا الكبرى، بما فيها القضية الفلسطينية، من منظور مصلحته الفئوية الضيقة وبقائه في السلطة سواءً زمن الحرب أو زمن السلم والمفاوضات مع إسرائيل.
بتفصيل أكثر، سعى نظام آل الأسد للإمساك بالقضية الفلسطينية، وإضعاف وتهميش منظمة التحرير بصفتها وطننا المعنوي والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وخاض حروب متعددة المستويات السياسية والعسكرية والأمنية ضدها بأدوات وأذرع متعددة فلسطينية ولبنانية، وعلى سبيل المثال لا الحصر تمكن الإشارة إلى قصف وتدمير مخيم تل الزعتر وحصار مخيمات بيروت وطرابلس في لبنان.
تمثل هدف الأسد من الإمساك بالقضية الفلسطينية بالمتاجرة بها، والتفاوض باسمها لتحقيق مكاسب فئوية للنظام الاستبدادي، وتجميل أو إخفاء جوهره الطائفي والاستبدادي.
في السياق أيضاً، لا بد من التذكير بمواقف ومقولات الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي اعتبر دوماً نظام آل الأسد خطراً استراتيجياً على القضية الفلسطينية بسعيه الدائم لمصادرة القرار الوطني المستقل، كما بالتصريح الشهير للأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حكيم الثورة جورج حبش، الذي قال فيه "إن نظام آل الأسد قتل من الفلسطينيين أكثر مما فعلت إسرائيل".
هنا، وقبل التطرّق لموقف نظام الأسد من حرب غزة الراهنة وفضحه، ووهم وحدة الساحات، لا بد من التطرّق إلى الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، الذي يشبه في أحد أبعاده الجوهرية والتاريخية والفكرية والسياسية، حرب غزة الراهنة. فأثناء الغزو وقعت معركة السلطان يعقوب التاريخية في البقاع، والتي امتزج فيها الدم الفلسطيني واللبناني والسوري رغماً عن إرادة النظام المهادن والرافض للاصطدام والحرب مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وعملياً وبالخروج من المعركة والحرب، ترك نظام الأسد الأب الفلسطينيين واللبنانيين وحدهم بمواجهة الاجتياح وآلة القتل الإسرائيلية، تماماً مثلما فعل الابن مع المقاومة في غزة.
بعد غزو لبنان، عمل نظام الأسد على تأجيج الخلافات الداخلية وشق حركة فتح ومنظمة التحرير، مع التذكير باعتقال آلاف الفلسطينيين في معتقلاته سيئة الصيت، تحديداً من حركة فتح باعتبارها العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك.
لكن سرعان ما أتى الجواب الشعبي الفلسطيني مدوياً من اللاجئين بسوريا، أولاً بالمشهد المهيب لجنازة الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، نهاية ثمانينات القرن الماضي، والتي كانت بمثابة استفتاء ضد النظام ولصالح القيادة الفلسطينية الشرعية بل المرحلة برمتها.
ثم شهدنا مواصلة النضال بشجاعة من الرئيس أبو عمار والقيادة الفلسطينية الشرعية، عبر نقل أو للدقة، إعادة الصراع إلى ساحته المركزية داخل فلسطين في الانتفاضة الأولى 1987 والثانية 2000، في ظل قطيعة سياسية تامة بين فتح والنظام، بينما حماس القوة الناشئة آنذاك، لم تكن قد بدأت التواصل مع نظام الأسد الابن، الذى سعى عبر العلاقة مع حماس بدلاً من فتح، لتعويم نفسه واستثمار القضية الفلسطينية لتغطية عورات النظام واستبداده ووحشيته.
مع اندلاع الثورة السورية، بادر اللاجئون الفلسطينيون إلى رد الجميل عبر استضافة المهجرين والنازحين من إخوانهم السوريين، مع دعم مطالبهم المحقة بالحرية والكرامة وتقرير المصير، وعمد النظام ضمن اتباعه الخيار الأمني الدموي، إلى التنكيل بالفلسطينيين –كما السوريين- وتدمير المخيمات وتهجير وتشريد أهلها.
وفي هذا السياق، يُختصر مخيم اليرموك باعتباره عاصمة الشتات الفلسطيني، المشهد كله، حيث قصفه نظام الأسد بطائرات "ميغ 29" المقاتلة في بداية الثورة وزمن سلميتها وقبل عسكرتها.
ولم يكتفِ النظام بذلك، حيث قام بتسليم جثث الجنود الإسرائيليين الأسرى في معركة السلطان يعقوب الشهيرة، بل ونبش عسكر الأسد مقابر الشهداء في المخيم للبحث عنهم تحت وصاية ضباط روس تنفيذاً لأوامر الرئيس فلاديمير بوتين، الذي قام بإهداء جثة الجندي زخاريا باوميل لصديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل الانتخابات البرلمانية المبكرة في العام 2019.
مع اندلاع الثورة، حصلت القطيعة بين النظام وحماس، باعتبارها حركة المقاومة الأبرز في فلسطين، بعدما رفضت تبني روايته عن المؤامرة المزعومة ضده. وقام النظام وحلفاؤه بشيطنتها وتشويه صورتها، لكن مع تولي يحيى السنوار قيادة الحركة داخل قطاع غزة في 2017، وانتقال الثقل القيادي فيها إلى الداخل والقطاع تحديداً، حصلت المصالحة مع النظام برعاية إيران وذراعها الإقليمي المركزي "حزب الله"، وجرى ابتداع مصطلح وحدة الساحات ضمن تبييض حماس لمحور طهران وأذرعها الطائفية، وإسباغ الطابع المقاوم عليه.
قُصد بمصطلح "وحدة الساحات"، توحّد الحلفاء وأعضاء المحور في مواجهة أي حرب إسرائيلية قادمة على أي من جبهاتها، لكن عند اندلاع حرب غزة العام الماضي، لم يتم تفعيل وحدة الساحات كما تم التنظير لها من جبهاتها المركزية، ولم يطلق الأسد طلقة واحدة إثر تهديد إسرائيل بإسقاطه، وتجاوز التفاهم مع روسيا بعدم التعرض له والتركيز على منع التموضع الاستراتيجي لإيران وحلفائه الذي تم التوصل إليه عند تدخلها في سوريا عام 2015.
وعليه، لم يكن مفاجئاً سقوط الوهم مرة أخرى، حيث فضّل النظام البقاء في السلطة على أي خيار آخر، حتى بثمن تمكين إسرائيل من الاستفراد بغزة وحيدة، وإيقاع نكبة جديدة وجريمة إبادة موصوفة بها وبأهلها.
في الأخير وباختصار وتركيز، وبناء على المعطيات السابقة فسقوط نظام كهذا صحيح بل وضروري أخلاقياً وتاريخياً وفكرياً وسياسياً سورياً وفلسطينياً ولبنانياً وعربياً أيضاً، وعلى الفصائل والطبقة السياسية الفلسطينية كلها استخلاص العبر والقيام بالقراءة الوطنية الصحيحة، والسعي لبناء علاقات صحية مع سوريا الجديدة، بعيداً عن العسكرة، والتركيز على إعادة بناء المخيمات والتعافي، ضمن عملية بناء وتعافي سوريا التي دمرها نظام الأسد، مع ضرورة انبثاق قيادة فلسطينية جديدة من رحم الثورة. وبالنسبة للمستجدات الإقليمية، نرى تراجع الاهتمام بحرب غزة، ما يستلزم أيضاً عقد ورشة، بل ورشات وطنية، لقراءة واستخلاص العبر اللازمة وتنفيذها وتطبيقها، والسعي لإنهاء حرب غزة، ضمن توافق وطني ومرحلة ومسار انتقالي يواكب نظيره في سوريا، جنباً إلى جنبب مع الحفاظ على القضية حية على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، والانتباه إلى حقيقة أن نظام الأسد سقط وأخذ معه الطبقة الفلسطينية أقله في سوريا.