كثيراً ما يحار المرء في أمر المقارنات. ولا سبيل إلى تبديد تلك الحيرة إلّا التريّث في تفسير الوقائع عند سقوط الأنظمة ومنها ما لم يعرف بعد. لذلك، تحفظت في ردّي على أسئلة كثيرة عن النظر إلى ما حدث ويحدث في سوريا في مرآة ليبيا. ربّما صحّ القول إننا في الحالتين، أمام أسئلة تدور حول "عسر التحوّل الديموقراطي"، الذي ذاقه الليبيون ويتوقّعه السوريون. وصحيح أيضا إننا نتناول أسئلة صعبة حول العلاقة بين التدخلات الخارجية والتناقضات الداخلية. أذكر أن أعضاء في مجلس الأمن الدولي لم يتحدثوا مرة عن ليبيا إلّا وكانت عينهم على سوريا. وكانت حجتهم أن التدخل الخارجي، لا سيما العسكري، يؤدّي دائماً إلى العنف والفوضى. غير أن صاحبة الحجة، وأقصد بالطبع روسيا، أتت بمثل ما سبقت لها إدانته فتدخلت عسكرياً لإنقاذ النظام السوري. لكنها أحجمت بالأمس عن الفعل نفسه حين استحال ذلك الإنقاذ.ليس هذا التناقض في الموقف حكراً على روسيا. فكثيراً ما تتغيّر التدخلات الخارجية، حتى الإنقلاب، من حيث استطاعة أصحابها ورغبتهم في التحكّم بالأوضاع الداخلية. بل نراها أحياناً محكومة بما تؤول إليه النزاعات الداخلية وكيفية استدعائها لتلك التدخلات. ففي ليبيا، توهّمت الدول التي أسهمت عسكرياً في إسقاط نظام القذافي أنها مرشحة لدور حاسم في الدولة الجديدة وللحصول على عائد كبير مقابل "استثمارها". لكنها خابت، لغير سبب، ليس أقلّها الانشغال بالمنافسة أو الصراع فيما بينها. لسنا هاهنا بصدد التخوّف من تطوّرات شبيهة في سوريا. فللمقارنة حدود يترتب علينا التنبّه لها. فإذا كانت العوامل الخارجية مؤثرة في الثورة السورية وصولاً إلى ما صارت إليه في الأيام الأخيرة، فإن قوة تأثيرها لم تكن كما كانت في ليبيا. فالتغييرات الداخلية المتراكمة في سوريا طيلة أربعة عشر عاماً، وما أصاب النظام نفسه من وهن، جعلت من سقوطه ممكناً أكثر مما فعلت التدخلات الخارجية المباشرة.ويدعونا ذلك، بعدما رأينا فرح الشعب السوري بالحرية وإن امتزج بالذاكرة الجريحة والألم وبعض المخاوف، إلى إيلاء اهتمام أكبر للفاعل الداخلي، عوض الاستغراق في تفسير الواقع الجديد في ضوء المصالح الخارجية، والتي شاعت تسميتها بالجيو سياسية، ومعها التدخلات الظاهرة أو الخفية. لقد صنع السوريون التغيير، فصار تأييده أولى من الغلو في نسبته إلى قوى خارجية والتساؤل عن مآلاته بظل أهواء تلك القوى.
وإذا ما جنح فهم الواقع السوري الجديد إلى التشديد على الخارجي حتى التقليل من شأن الداخلي، أو إهماله، تظهر سوريا بصورة بلد متقاسم أو موزّع بين مناطق نفوذ وجماعات. غير أننا نسمع بالمقابل حناجر السوريين تصدح، بتلقائية تستعيد عفوية الثورة السورية منذ إنطلاقها، هاتفة أن "الشعب السوري واحد". وهي بذلك تؤكّد أولية الفاعل السوري وفاعليته التي تتجاوز ما حقّقه تنظيم بعينه. ولعل هذا الهتاف الشعبي يضمر رفضاً لتقاسم سوريا بين الدول ذات الحضور أو النفوذ على أجزاء من أرضها.غني عن القول إن وحدة الشعب السوري المنشودة لا تنفي التنوع لكنها ترفض تحوّله تنابذاً كما جرى على يد السلطة البائدة عقوداً طويلة. ولعلّ القول هو صنو الدعوة إلى قيام دولة المواطنة، حيث لا أكثرية وأقليات ادّعى النظام البائد أنه حاميها، ولم يفعل سوى الإصرار على إخضاعها بعد إخافتها من الأكثرية. والقول بوحدة الشعب السوري، النابع من وعي السوريين على امتداد السنوات القاسية، يدحض سردية "الحرب الأهلية" التي شاعت، لا في سوريا فحسب، بل في العالم العربي وفي الدول الغربية. وهو اعتراض على ما دعي واقعية عند البعض ممن رضي بحكم الأسد أو تغاضى عن ارتكاباته او تقرّب منه بذريعة الخشية من فوضى تلك الحرب.عسى أن يكون هذا الإعلان الشعبي عن التمسك بوحدة السوريين سبيلاً نحو وحدة الأرض السورية، التي كانت إسرائيل سباقة في تهديدها من طريق احتلال جبل الشيخ السوري والمنطقة العازلة، وادعائها أنها تمدّ يد السلام إلى جيرانها، أو إلى فئة منهم. وعسى أن يكون الإيمان بوحدة الشعب السوري أول الطريق إلى دستور يحقق المساواة ويحلّ سلطة القانون فوق أي سلطة أخرى.