17/11/2024سيطرتْ الفصائل المسلحة على حلب. يبدو أن السلاح رفيق أيامنا منذ 2011، سنة ميلاد طفلي الأوّل، الأرقام هي التي صنعتْ الذاكرة: 21 آذار من ذاك العام، غير أنه عيد الأم، كانت أحداث درعا تزداد رعباً، وأهداني طفلي أوّل أسنانه اللبنيّة.كبر طفلي مع الحرب أو الأزمة أو الثورة. لكلٍّ زاويته الديموغرافية التي تفرض تسمية ما يجري. دخل عامه المدرسيّ الأوّل، وفي رصيد الحرب ستون هجمة كيماوية، قُصفت مدينة جدّه الذي يحبّ العام 2018.لم أكن أرغب أن يكبر كأمّه، ضمن بيئة فُصامية، تمنيتُ لو أحجب عنه الشعارات الحزبية الطنّانة. ممّتنة لقدرٍ حجب عنه عقاباً من مدرّب التربية العسكرية، المادة الملغاة من الجدول المدرسي. لكن ماذا عن كتب القومية؟! كيف سأحجّم التلوث العقائدي، وأخفّف جرعات السمّ المشوِّه للمنطق؟ سيحبها كثيراً نعم كما فعلتُ أنا، إلا أني أخشى الصدمة تُفقده التوازن حين يعلم اليقين.أخفي صندوقي المدرسيّ الأسود كلّما سألني عن ذكرياتي في عمره. أردم التراب فوق مدرّبة "الفتوة" حين حفّت أظافري بالحائط لظنّها بأني لوّنتها بطلاءٍ لامع، لا تصدّق لونها الورديّ بلا أي طلاء.أكوّم التفاصيل الصدئة، أفرغها من سلّة غسيل الأدمغة لردم قرار فصلي لثلاثة أيّام بتهمّة عدم احترام العلَم، إذ حيث تغيّبتُ عن تحيّته وآثرتُ كنس الصفّ متداركة دوري، خشية العقاب. حنّطتُ نظرة الرفيق البعثي في تابوت منطلقات الحزب النظرية البرّاقة، حين لم أرفع يدي على أمرٍ لم أفقهه. في الصف تكلموا وتكلموا عن شيءٍ، ليومي هذا، أحاول فكّ طلاسمه من كلمات منمّقة غير مترابطة لشيء وجودي وعقائدي غير مرئي! وحين ختم حديثه بـ"هل أنتم موافقون؟" رفع الجمع يده إلّاي، فسألني متهكمّاً:" لَيكون ما عجبك؟"...المهمّة المستحيلة التي أوكلتها لنفسي هي خلق التوازن في عقل صغيري بأنّ ما يجري مُشكّك في نزاهته. فتمييز الحقّ مهمة تربوية. في الوقت نفسه، لا يجب الإيضاح، حتى لا يودي بنا لسان طفلٍ إلى محرقة جهنّم. يسألني عن قرارات مجلس الأمن المساندة للشعب السوري، عن صور "القائد الخالد". يظن بأن صلة قرابة تربطنا به إذ يصادفه في كلّ مكان، وكيف لشخصٍ ألا يموت: "هل هو سوبرمان؟!". كذلك عن الإنتخابات البرلمانية التي أبدى حماسة لها، يطلب من أبيه الترشّح للرئاسة. مسكين طفلي كان يعتقد بسهولة تبديل رئيس الجمهورية!يسألني: مَن يقوم برشق الرصاص والتفجير، فأجيبه:"المسلحون". يستفسر:"يعني إسرائيل؟". في كلّ مرة أصمت، وأبتلع لساني الذي صار كشوكة صبّار، ألمها أهون من رعبٍ محقّق سبق ونجوتُ منه بأعجوبة، إذ أني ربما الوحيدة التي دخلتْ وخرجتْ من فرع الأمن السياسي في اليوم ذاته! إلا أن المؤكد أني لم أكن الوحيدة التي تجهل سبب استدعائها.***8/12/2024رائحة الحذر تفوح من أبواب دمشق. سيدخلون حتماً، لكن أيّ بُركة دم ستغرقنا هذي المرّة؟ عند الثانية فجراً، صوت رصاص فضّ عذرية الهدوء، تكبيرات تقترب من مكان سكني، مقابل "فرع فلسطين"، الفرع الأمني الذي نسمع عنه روايات خيالية. استيقظ ولداي مذعورَين، طمأنتُ أحدهما الذي مِن عُمر الثورة، وحضنتُ الأصغر الذي ظنّ بأن أحدهم يقرع الباب. رحت أتلو ما أحفظ من آيات قرآنية علّها تجلب شيئاً من السكينة لقلبه الصغير، وقلبي الذي يدقّه مثقب التناقض المخيف المفرح. لكني، من دون أن أنوي، ردّدتُ باستلاب: "عاشت سوريا وسقط بشار الأسد". أعدتُها بصوتٍ مسموع، وأنهار الدمع تجرف رعباً معتّقاً، قلاع من الوجل يذيبها الملح على الوسادة. الآن فقط عرفت كيف للمتظاهرين الذين استقبلوا الرصاص في الساحات، أن يثابروا على تردادها، يا للذّة ما أقول! استلاب أعاد للوعي حريته، بعكس ما عرّفه هيغل.على مدى 54 عاماً لآل الأسد، حَكمتْنا الأرقام وتحكّمت في مصائرنا. في برادات المشافي أرقامٌ، على صدور جثث المعتقلين، فروع أمنية بالأرقام، أرقام مقابر جماعية. سجون سريّة، أقبية تحت الأرض، تحتجز أرقاماً مغيّبة قسرياً من لوائح الحياة. وسجلّات مرقمة نجتْ من الحَرق، سوريا هي بلد الأرقام اللانهائية.ها نحن نحصي: الغارات الإسرائيلية اليومية، بيانات من "الهيئة" تطمئن، مناشير فايسبوكية شعبية تشكّك، مُطالَبات بدولة مدنية لا إسلامية ولا متشدّدة. أرقام في كل مكان تسبح في ملكوت الأماني والحيطة.نستيقظ كل صباح ونقرص جلودنا للتأكّد. إسقاط نظام الأسد على الشاشة ليس حلماً، امتدّ عمر جيل كامل، من الألف إلى الطاء، أطول"إسقاط" في تاريخ الديكتاتورية، هو واقع. لن يحكم أبنائي آل الأسد بعد اليوم! وما كنتُ لأجرؤ على نشر هذه المسودة، لولا أنها حلمُ يقظة نتمنى ألا نستفيق منه أبداً.