استعجال وزير التربية عباس الحلبي لإقرار المناهج للتعليم ما قبل الجامعي قبل نهاية العام الحالي أثار ولا يزال يثير الاستغراب والريبة. سبق وأعطى التفتيش التربوي، التابع للتفتيش المركز، بيان رأي حول المناهج في شهر آب المنصرم، أكد فيه أن العمل على المناهج بـ"الشكل الحالي ليس إنجازاً وطنياً، بل هو في الحقيقة هدماً لما تبقى من التربية، خصوصاً لمرحلة التعليم الثانوي".
بيان تضليلي للتربيةتوقفت الحرب الإسرائيلية على لبنان وعاد الملف إلى الواجهة. وفي جديده، عقدت الهيئة العليا لمنهاج التعليم العام ما قبل الجامعي اجتماعاً يوم الخميس المنصرم برئاسة الحلبي. وتبين أن التصويت على الأوراق المساندة جرى برفع الأيادي وتم توقيع المحضر، كما جاء في البيان الرسمي للوزارة. وفيما لم يلفت البيان إلى المداولات التي حصلت خلال الأسبوع المنصرم وكيف جرى تعديل الأوراق، اكتفى بذكر "أن هذا المسار يقتضي موافقة قانونية من مجلس شورى الدولة ومن مجلس الخدمة المدنية لجهة استحداث مراكز ووظائف جديدة، ويستدعي بعد ذلك موافقة مجلس الوزراء".البيان المقتضب الذي صدر عن وزارة التربية حول هذه القضية الشائكة يحمل الكثير من التضليل للرأي العام. لكن المشكلة ليست في التضليل فحسب، بل كيف جرى التوقيع على المحضر ومن وقعه، وهل يدخل ذلك في صلب صلاحية اللجنة، وهل المسألة اقتصرت على توقيع المحضر أم جرى إقرار الأوراق المساندة؟التضليل الذي أقدمت عليه الوزارة يبدأ من البيان الصادر عنها والذي جاء فيه: "بعد النشيد الوطني وتقديم من أكرم سابق، قال الحلبي: أشكركم جميعا على تنوع المسؤوليات لحضوركم وإسهامكم ومشاركتكم الفعالة..."تضارب مصالح وتلاعب بالتوقيعلم تعرّف الوزارة من يكون أكرم سابق، الذي لديه صفة أمين السر العام للمنسقية العامة لتطوير المناهج. وعدم التعريف عنه مقصود. فهو منذ أكثر من سنة قدم طلب استيداع من المركز التربوي وذهب للعمل في الوكالة الألمانية للتنمية. وبالتالي فقد الصفة لمواصلة عمله في المركز التربوي وفي العمل على المناهج. علماً أن وجوده في الهيئة العليا للمناهج فيه تضارب مصالح في الأساس، مثله مثل وجود جهاد صليبا، الذي يحتل منصب منسق المنسقية العامة لتطوير المناهج. فصليبا نقل عقد عمله إلى مشروع التعليم غير النظامي عبر منظمة اليونيسف، ويفترض أن يفقد صفته بالعمل على المناهج. إلا أن تعيينه في الهيئة العليا للمناهج، يبنى في الأساس على مخالفة إدارية جسيمة،وبمثابة ارتكاب مريب. فبحسب قرار تعديل الهيئة العليا للمناهج، التي اطلعت عليها "المدن" يحتل سابق وصليبا منصبين يتعلقان بإعداد وتنسيق المناهج. ما يعني أن تعيينهما كأعضاء في الهيئة العليا للمناهج بني على تضارب المصلحة، لأن دور هذه الهيئة تقريري. فهي التي تقر الأوراق المساندة التي أعدت سابقاً. فهل يجوز أن يعد الشخص نفسه الأوراق ويكون في عداد الهيئة التي تتخذ قرار إقرارها؟من ناحية ثانية، أوردت الوزارة في البيان أن التصويت جرى برفع الأيدي على المحضر. وهنا ليس من صلاحية "الهيئة العليا" توقيع المحضر (محضر الاجتماعات التي حصلت بين التفتيش والمركز التربوي)، فلا صفة لها في هذا المجال. بل إن دور الهيئة إقرار الأوراق المساندة التي جرى التوافق على تعديل جزء منها خلال الاجتماعات. أما السؤال الأهم فهو من صوت على المحضر وعلى الأوراق المساندة؟ بحسب القرار الرسمي لتعديل أعضاء الهيئة العليا للمناهج، والذي لم يصدر أي تعديل آخر عليه (في حال جرى أي تعديل جديد على الأعضاء يكون بمثابة عملية تهريب لأن المعنيين لم يتبلغوا به، تقول مصادر مطلعة، والعديد من الأعضاء لم يشاركوا في الاجتماع يوم الخميس. بل شارك آخرون يفترض أنهم غير مخولين بالتوقيع. فعلى سبيل المثال، فإن الشخص الذي يحضر اجتماعات الهيئة بصفة أمين عام اليونسكو هي السيدة رمزة جابر مديرة مكتب الوزير، في حين أن الأمين العام لليونسكو وفق القرار هي السيدة هبة نشابه. ما يعني أن توقيع جابر غير قانوني. وهذا ينطبق على أحد مستشاري وزير التربية، الذي تم استبداله بآخر من دون تعديل القرار. وهذا ليس مجرد تلاعب بالتواقيع، بل يرتقي إلى التزوير. قد تذهب الوزارة، بعد افتضاح الأمر، إلى إعادة تعديل القرار ممهوراً بتاريخ سابق! هذا في حال لم يتم تعديل القرار بتاريخ سابق لكن من نشر. بمعنى أنه تم وضعه بالأدراج ومن دون تبليغه للجهات المعنية.من ناحية ثالثة، كيف توقع الأوراق المساندة من دون وجود رؤساء روابط المعلمين؟ فوفق القرار تم تعيين السيدة ملوك محرز، رئيسة رابطة الأساتذة بالتعليم الثانوي عضواً. فيما محرز مستقيلة من منصبها في الرابطة منذ أكثر من عام، ولا تحضر اجتماعات الهيئة العليا. فمن يوقع عنها؟الخلافات قائمة على خلق الوظائفمنذ البداية يشترط العمل على المناهج وجود الشفافية. فالأوراق المساندة التي اقرتها الهيئة العليا يوم الخميس، ما زالت سرية ولم تنشر على الرغم من وجوب نشرها قبل إقرارها كي يطلع عليها المعنويون بالشأن التربوي لإبداء الملاحظات. فلا يجوز أن تكون المدارس والأساتذة وأهالي الطلاب، الذين يشكلون الجسم التربوي، مجرد متلقين. فما أقدمت عليه الوزارة هو فرض مناهج بطرق ملتسبة قائمة على المحاصصات الحزبية والطائفية (كما سبق وكتب الكثير في هذا المجال) وتريد من المجتمع التنفيذ. وبمعزل عن هذه القضية الحيوية، التي تلقي الشكوك حول المناهج المنتظرة، إلا أن المستغرب هو عدم لفت الوزارة في البيان إلى وجود خلافات عميقة حول الأوراق المساندة.ووفق المصادر أقرت الهيئة العليا ثلاث أوراق مساندة من أصل عشرة، وهي: ورقة المقاربة بالكفايات، وورقة سياسة التقويم، وورقة السلم التعليمي وتنظيم السنة الدراسية. وقد أخذ المركز التربوي للبحوث والإنماء برأي التفتيش التربوي حول غالبية المواضيع الأساسية التي عرضها في بيان الرأي الآنف الذكر. ومن أبرز التعديلات التي رضخ المركز التربوي لها التخلي عن "الاختبار الوطني التوجيهي". فقد جرى التوافق على إبقاء الامتحان الرسمي تحت مسمى تقويم مرحلة التعليم الأساسي وتقويم مرحلة التعليم الثانوي وعدم استبداله بالاختبار الوطني. فالهدف من "الاختبار" شيء ومن الامتحان الرسمي شيء آخر: الأول مجرد اختبار لقياس معارف الطالب للعمل على تحسينها من خلال تعديل طرائق التعليم أو المناهج، إذا اقتضت الحاجة، والثاني امتحان لاجتياز مرحلة تعليمية على مبدأ الرسوب والنجاح. وبالتالي جرى التوافق على الإبقاء على الامتحان الرسمي بنسبة 80 بالمئة من العلامات النهائية والأخذ بالعلامات المدرسية بنسبة 20 بالمئة.وتضيف المصادر أن نقطة حيوية وأساسية لا تزال عالقة. فالمركز التربوي لم يأخذ بالملاحظات حول خلق الوظائف الجديدة التي ستتكرس من خلال المناهج. فليس دور المناهج والهيئة العليا خلق وظائف جديدة مثل الارشاد النفسي والصحي والاجتماعي وغيرها من الوظائف. وبالتالي إقرار الأوراق تمهيداً لعرضها على مجلس الوزراء يعد بمثابة "تهريبة" لخلق وظائف جديدة، في حال أقرت. وبمعزل عن أن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال، لا يمكن للهيئة العليا خلق وظائف أصلاً. بل يفترض أن تتشكل لجان مختصة، بعد إقرار المناهج، تدرس الحاجة للوظائف الجديدة. فهل الهدف من هذه المناهج تربوي، أم هو لخلق وظائف جديدة، تهدف بدورها إلى قوننة وضعية "جهاز الإرشاد والتوجيه"، ليصبح لاحقاً مديرية في وزارة التربية؟