أدى مئات الطلاب والأساتذة في كليتي الطب والهندسة المعمارية بجامعة دمشق، صلاة جماعية، في مشهد يعيد المخاوف التي لم تغب أصلاً، بشأن طبيعة الدولة السورية الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد، على الأقل في الفترة الانتقالية الحالية، بالنظر إلى طبيعة الفصائل المعارضة التي شاركت في تحرير المدن السورية تباعاً، والتي لا يغلب عليها فقط الطابع الإسلامي، بل تتضمن فصائل جهادية أبرزها "هيئة تحرير الشام".
والفيديو المتداول يثير حالتين متناقضتين تبعاً لموقف الشخص الذي يعلق عليه، بين الخوف العميق بالنظر إلى طبيعة الجامعات كمكان يفترض أن يكون علمانياً بحتاً ومنفصلاً عن الدين كي يضمن بناء عملية تعليمية غير مؤدلجة، وبين الاحتفال المبهرج بالنظر إلى قدرة السوريين على ممارسة شعائرهم الدينية الإسلامية تحديداً، في العلن، بسبب طبيعة النظام السوري التي كانت تلاحق الطلاب المصلين وتسجل أسماءهم بوصفهم متطرفين محتملين.والنظام السوري، رغم كل ادعاءاته، لم يكن يوماً نظاماً علمانياً، بل كان نظاماً طائفياً فرّق بين السوريين وحولهم إلى فئات متصارعة زعم أنه يحميها من بعضها البعض. وكان المسلمون السنة الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان يتعرضون للتمييز الديني، مثل بقية الطوائف، بشكل يمكن تلمسه اليوم في صور من الفروع الأمنية تظهر سجلات للأفراد الذين يصلون صلاة الفجر في المسجد أو أعداد المتوجهين إلى صلاة الجمعة ونوعية الخطب الدينية التي تتم كتابتها في فروع المخابرات وتوزيعها وغير ذلك من تفاصيل، جعلت السوريين المتدينين يخافون حتى من إظهار تدينهم.لكن ذلك كان دائماً حالة مثيرة للجدل، لأن النظام تقرّب من فئات دينية محددة دارت في فلكه ضمن علاقة نفعية متبادلة، مثل تنظيم "القبيسيات" النسائي الديني وعشرات رجال الدين السنة، والأمر نفسه بالنسبة للطوائف الأخرى ممن توصف بالأقليات، وهو خطاب يؤكد عدم وجود قيم المواطنة في الدولة الأسدية البائدة، كالمسيحيين والدروز والاسماعيليين.ورغم وجود مصليات في الجامعات فإنها كانت صغيرة ومراقبة، ما يجعل المشهد الحالي مفهوماً، لكن وضعه ضمن سياق أوسع يبقى مهماً بالنظر إلى طبيعة القوى الإسلامية المتشددة على الأرض، خصوصاً أن النقاشات تتضمن تحقيراً لشعائر الطوائف الأخرى، بما في ذلك الطقوس المسيحية. ويعيد ذلك التذكير بأن السوريين السنة مثلاً كانوا خلال العقود الخمسة الماضية، وخصوصاً بعد ثورة العام 2011، يشعرون على الأغلب بأنهم في خطر وجودي نتيجة سياسات تهميشية، عززتها حملة الإبادة التي قام بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه، ضدهم، ومشروع التشيّع الذي نشرته الميليشيات الإيرانية طوال سنوات، مع تهميش أكبر للسنّة في دول إقليمية أيضاً، مهما كانت رموزها غير أخلاقية، مثل صدام حسين في العراق، أو تمت تصفيتهم من قبل نظام بشار الأسد نفسه مثل رفيق الحريري وسلسلة من شهداء الاغتيالات في لبنان.وفيما لم تكن سوريا دولة دينية بالكامل، على غرار السعودية وإيران، كما لم تكن دولة علمانية بالكامل على غرار الديموقراطيات الغربية... فالدستور السوري يحدد الفقه الإسلامي مرجعاً رئيسياً للتشريع، ويحدد دين الرئيس بالإسلام، بالإضافة إلى وجود الطائفية الدينية ضمن قانون الأحوال الشخصية المخجل. وكانت هوية الدولة بالتالي، طريقة النظام في مخاطبة الجمهور المحلي أولاً، والدول الغربية ثانياً، عبر تصدير نفسه كحامٍ للأقليات في شرق المتوسط أو كحارس للبوابة عبر حماية الغرب من التطرف الإسلامي. واليوم تصبح هوية الدولة مجدداً أساسية في نقاشات السوريين الذين يجب ألا يتخلصوا من حكم متطرف كي يتسبدلوه بحكم متطرف آخر فقط، لا يختلف عنه سوى في نوعية الأيديولوجيا التي يتبناها. وتعمل هذه السردية على تعزيز الانتماء الديني كمحدد للهوية التي تصبح مرادفة للحق في الوجود، علماً أنها تتكرر لدى بقية الطوائف الدينية في البلاد كل على حدة، وتنشر كل طائفة بشكل منفرد إحصاءاتها الخاصة حول إفراغ البلاد من أبنائها، وظهرت ربما بشكل واضح في الحالة المسيحية السورية عند طرح مشروع القانون رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف في البلاد العام 2018.وهذا بالتحديد ما يثير المخاوف من قبل صحافيين ومثقفين سوريين ومن أفراد ينتمون حتى للأكثرية السنية ممن يتحدثون عن ضرورة الالتفاف حول هوية وطنية جامعة، مهما كان وجود تلك الهوية من أساسه وهماً رومانسياً بسبب عقود من السياسات الرسمية التي قوضت معنى الانتماء للوطن. ويحضر ذلك تحديداً في النظرة إلى السوريين الأكراد من قبل كثيرين في المعسكر المعارض للنظام على أنهم غير سوريين، وإطلاق صفات عنصرية عليهم ومطالبة آخرين بترحيلهم من سوريا وغير ذلك.ولطالما تم النظر إلى المجتمع السوري على أنه مجتمع محافظ أكثر من دولة مجاورة مثل لبنان مثلاً، لكن ذلك قد يكون تبسيطاً لمجتمع متنوع، خصوصاً بعد سنوات الحرب والثورة وتشتت ملايين السوريين في المنافي، وانفتاح بعضم على العالم وعلى بعضهم البعض أيضاً. وفيما كان النظام السوري يعمل على زيادة المساجد والكنائس ودَور الدين في المجتمع بشكل مؤسساتي مع إغلاق دور السينما ومراقبة الكتب والإعلام وكل ما له علاقة بالثقافة والفلسفة، حاول النظام خلق نموذجين: مثقفو السلطة البعثيون الذين يتم تقديمهم كأصوات علمانية، على غرار الممثلة سلاف فواخرجي التي مازالت حتى اللحظة توالي النظام البائد، والأفراد المتدينيون الذين يمكن السيطرة عليهم عبر رجال الدين المقربين من السلطة. وما عدا ذلك يصبح من الأعداء الذين تتم ملاحقتهم والتنكيل بهم وقتلهم وتعذيبهم.وفيما يبقى التأثير الإسلاموي المتشدد الآتي من فصائل المعارضة السورية اليوم، حاضراً في مشهد الصلاة أو مشهد افتتاح مدارس يتم فيها ترداد شعار "قائدنا إلى الأبد.. النبي محمد"، على غرار الشعار البعثي المشؤوم "قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد"، فإن تنوع المجتمع السوري قد يشكل عائقاً أمام ذلك التحول الأسوأ نحو دولة تحاكي نموذج "طالبان" في أفغانستان، كما أن الدول الإقليمية تتدخل لفرض مصالحها وأجنداتها على السوريين، ما يجعل المشهد معقداً وقد ينحرف نحو انفجار جديد في أي لحظة، تجعل حتى الحديث عن شكل الدولة المطلوبة، أشبه بالخيال، لعدم وجود دولة أصلاً.ويخلق ذلك كله توتراً بين السوريين، يظهر بشكل مشاحنات في مواقع التواصل مع انتهاء الأدرنالين الذي أفرزهما انهيار نظام الأسد. ومع انتهاء موجة الفرح بدأ التركيز على السلبيات والحديث عن المستقبل الضبابي للبلاد. وبين الحرية المكتسبة والخوف من التطرف، يقف السوريون أمام سؤال صعب: هل يمكنهم بناء دولة مدنية تحترم التنوع؟ أم أن الدين، بوصفه أداة للصراع والهوية، سيظل عقبة أمام ذلك الحلم؟ظهر ذلك تحديداً في الملف القضائي، مع تسلّم الشيخ حسن الأقرع رئاسة القصر العدلي في حمص على سبيل المثال، رغم أنه خريج معهد شرعي فقط وعمل قاضياً لفترة في صفوف "جبهة النصرة" التي كانت حينها مرتبطة بـ"تنظيم القاعدة"، مع الحديث عن حالات مشابهة في دمشق، والحديث عن فرض الحجاب على القاضيات أو مطالبتهن بعدم العمل وغير ذلك من قصص تظهر وتختفي مع اعتذارات من طرف إدارة العمليات العسكرية نفسها، فيما يبقى التشنج حاضراً بين المعلقين الذين يتبادلون الاتهامات في "فايسبوك" و"إكس"، كما ينتشر سيل من الأنباء الكاذبة والصور غير الدقيقة، لتأجيج المشكلة القائمة أصلاً، تنشرها تحديداً حسابات تابعة لمحور الممانعة الذي تقوده إيران.