تعجر اللغة عن وصف الخراب الذي صنعه حكم عائلة الأسد ل 54 عاماً في سوريا. كنا نرى ونسمع الكثير عن القمع والتجاوزات والفساد، وحتى الإعدامات الجماعية، التي حصلت في بعض السجون، أو خلال أحداث حماة وحلب عام 1982، لكن ما ظهر من توحش مخفي بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الحالي، لا يكاد يقارن بكل ما سبق. لقد تكشف قدر من الأهوال يحتاج إلى أعوام من العمل من أجل معالجة آثاره المباشرة، وغير المباشرة.
هناك من يتحدث عن أكثر من 100 ألف مفقود في سجون النظام، لم يعثر لهم أحد على أثر. ليس هناك أي معلومات أو تفاصيل حول المصير الذي انتهو إليه. من المؤكد أن الأرض لم تنشق ذات ليلة وتبتلعهم. ومن الصعب أن يكون النظام نقلهم إلى جهة أخرى قبل أن ينهار. وقد أمضى الآلاف من أهالي هؤلاء عدة أيام، وهم يتنقلون من سجن إلى آخر، يبحثون عنهم. لقد جاؤوا من مختلف المحافظات السورية يفتشون عن ذويهم الذين اعتقلهم النظام في فترات مختلفة، بعضهم مضى على غيابه اكثر من اربعين عاماً، وهناك عدد كبير ممن تم اعتقالهم خلال المظاهرات التي شهدتها سوريا في أعوام الثورة الأولى. ويبدو أن الكثير من الشباب الذين لم يفلحوا في الهرب من المناطق التي سيطر عليها النظام، صاروا في عداد المفقودين.
كان من الصعب استيعاب ما جاء من تفاصيل عن الرعب في رواية مصطفى خليفة "القوقعة"، أو كتاب الشاعر فرج بيرقدار "خيانات اللغة والصمت" عن تجربة 16 عاما من السجن، واعتبر الكثير منا أن خيال الكاتب فعل فعله ليبني من تفاصيل عادية أساطير عن التعذيب والإذلال وتحطيم المعنويات في أقبية التعذيب لدى اجهزة المخابرات أو السجون التابعة لها، وخاصة سجون تدمر وصيدنايا وفرع فلسطين والمخابرات الجوية.
حين التقينا بعض الأحياء الذين عادوا من ذلك العالم، الذي يحده الموت من كل الجهات، أحسسنا بأننا نلتقي مع بشر ظفروا بحياة ثانية، وكثيراً ما حدثني السجين السابق محمد برو، الذي نجا مصادفة من الإعدام في سجن تدمر عن فاصل في زمنه بين حياتين، ما قبل وما بعد النجاة من الإعدام، وسجل في كتابه "ناج من المقصلة"، تلك المشاعر المختلطة لفتى حين ساقوه المشنقة في ذلك الصباح، وشفع له أنه حدث تحت سن ال18، فأعادوه الى الزنزانة، وبقيت في ذهنه حتى اليوم، صور شركاء سجن تدمر، الذين قضى معهم عدة أعوام، وهم معلقين على حبال المشانق في الساحة العامة للسجن.
أكثر من 100 ألف مفقود اختفوا كليا. صحيح أن أهاليهم يمارسون كل أصناف الضغط من أجل العثور عليهم، وهناك مطالبات من أجل إحضار مدراء السجون وتسليم الخرائط الخاصة ببعضها، وخاصة الأقبية السرية الموجودة تحت الأرض، كما هو الحال في سجن صيدنايا، الذي يلقبونه بالأحمر كناية عن الإعدام، لكن عمليات البحث التي قامت بها فرق الدفاع المدني لعدة أيام، تفيد بأن نسبة الأمل ضعيفة جدأ في العثور على سجناء آخرين ناجين، بعد أن تم إخلاء السجون كافة، في حلب وحماة وحمص ودمشق، التي تحتوي على أهم السجون والأفرع الأمنية.
تبين أن السجون ليست مخصصة لفئة بعينها، فهي تضم الشباب وكبار السن وحتى الأطفال، الذكور والإناث، ومن كافة أنحاء سوريا، واعدادأ قليلة من اللبنانيين والأجانب، من بينهم الصحافي الأميركي اوستن تايس، الذي كان معتقلا لدى القوى الجوية منذ عام 2012، وقالت والدته قبل سقوط النظام أن لديها معلومات بأنه على قيد الحياة، ولكن لم يظهر له أثر بعد تبييض السجون، وحسب تقديرات بعض المتابعين فإن الأحياء الذين تم العثور عليهم على قيد الحياة هم ثلاث فئات. الأولى تضم اولئك الذين اعتقلوا بعد عام 2018، والثانية تتكون من المبرمجين على لوائح الإعدام، وقد صادف أن 50 من هؤلاء كان مقرر إعدامهم نهار سقوط السجن. والثالثة من المنسيين والمهملين وفاقدي الذاكرة، الذي نسوا اسماءهم وعناوينهم وزمان وسبب اعتقالهم. وهؤلاء فئة من المرضى، الذين فارق بعضهم الحياة مجرد أن خرج من السجن ورأى الضوء في الخارج، واستنشق الهواء الصافي، وهناك حالات أخرى حركت قدرا من ردود الفعل الغاضبة، ومن هؤلاء الشخص الذي أفرج عنه من سجن صيدنايا، ونُقل إلى الأردن على أساس انه المعتقل الاردني أسامة البطاينة، الذي اختفى عن الانظار في سوريا عام 1986، وبعد أن نُقل للاردن قامت عائلة البطاينة بفحض الحمض النووي، وتبين أنه ليس ابنها، واعادوه إلى سوريا. وعلقت مصادر أردنية على الحادثة بالقول إن البطاينة ليس الحالة الوحيدة لمواطنين أردنيين اختفوا في سوريا. فقد اعتقل النظام السوري آلاف الأشخاص خلال العقد الأخير السورية، حيث يُعتقد أن العديد منهم فقدوا في السجون، دون أن تتمكن عائلاتهم من معرفة مصيرهم.
وحين كان يأتي الحديث عن المسؤولين عن الانتهاكات في العقدين الأخيرين، يتم التوقف أمام رمزين كبيرين للجريمة من المخابرات الجوية، هما اللواء جميل حسن والضابط عبد السلام محمود. وحسب بيان وزارة العدل الأميركية فهما متورطان بممارسة معاملة قاسية وغير إنسانية مع معتقلين مدنيين، وانهما جلدا وركلا وصعقا بالكهرباء وأحرقا ضحاياهم، وقاما بتعليقهم من معاصمهم لفترات طويلة من الزمن؛ فضلاً عن تهديدهم بالاغتصاب والقتل؛ وإخبارهم زوراً أن أفراد أسرهم قُتلوا.