ربما لم يكن الممثل نبيل الحلفاوي نجما وفقا للمواصفات التي كرستها الممارسات الهوليوودية على مدى سنين طويلة، لكنه كان بكل تأكيد ممثلا راسخ القدمين، شديد الحضور في أي عمل فني شارك فيه، كان أقرب إلى الآلات الموسيقية التي تشكل قاعدة الأوركسترا السيمفوني والتي لا يمكن الاستغناء عنها حتى لو لم يكن عازفوها دائما في الصف الأول.ذات يوم سألت المخرج الراحل يحيى العلمي أثناء استعداده لمسلسل "الزيني بركات" عن أبطاله؟ فأجابني أنه لم يستقر على أحد سوى الفنان نبيل الحلفاوي ليؤدي دور "زكريا بن راضي" كبير البصاصين ووزير السلطان المملوكي قنصوه الغوري، فأبديت له دهشتي من أنه استقر على شخصية البطل الثاني فى المسلسل قبل أن يختار الممثل الذي يلعب دور الزيني بركات نفسه ( أدى شخصيته بعد ذلك الممثل أحمد بدير) فقال هكذا هو دائما نبيل الحلفاوي يناديه الدور، وتؤسس عليه العمل ثم تفكّر بعد ذلك في بقية فريق الممثلين، مضيفا أن الأمر تكرّر معه سابقا عند اختيار فريق عمل مسلسه "رأفت الهجان بأجزائه الثلاثة" حين أختار أولاً نبيل الحلفاوي لدور ضابط المخابرات محمد نسيم أو نديم هاشم بحسب ما ظهر في الحلقات، الشهير بـ"نديم قلب الأسد" المسؤول عن تدريب عميل المخابرات المصرية في إسرائيل رفعت الجمال المعروف دراميا برأفت الهجان، كل شخصيات العمل – تابع العلمي – كانت محل تردّد بمن في ذلك شخصية الهجان نفسه بين عادل إمام ومحمود عبد العزيز، والاستثناء الوحيد كان نبيل الحلفاوي.
وقد أحالتني كلمات المخرج الكبير، إلى ما قاله رجل المخابرات المصري محمد نسيم نفسه، حينما سئل بعد أداء الممثل مصطفى فهمي لشخصيته في مسلسل "الحفار" عمن يراه الأفضل بين الاثنين في تقمص شخصيته، فأجاب من دون تفكير: الفارق كبير، لقد أشعرني الحلفاوي أنني أرى نفسي على الشاشة، وربما يفسر هذا كله لماذا كان صناع الأعمال الدرامية يلحون على اختيار نبيل الحلفاوي لأداء الشخصيات الحقيقية ذات الحضور المهم في الحياة السياسية في مصر، فقد لعب مرتين دور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الأولى في مسلسل "أوراق مصرية " والثانية فى حلقات "دموع صاحبة الجلالة "، ودور زعيم الأمة سعد زغلول فى مسلسل "حواري وقصور"، وعلي باشا ماهر أول رئيس وزراء في عهد ثورة 1952، والبطل الشعبي الشيخ عمر مكرم في مسرحية "رجل في القلعة"، وشاعر الثورة العرابية عبد الله النديم في حلقات "أمير الشعراء" والقبطان محمود قائد المجموعة التي نفذت عملية تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات، ولذلك عرفه أصدقاؤه ومتابعوه في "إكس" بلقب "القبطان" تقديرا لنجاحه اللافت في تجسيد هذه الشخصية في الفيلم الشهير "الطريق إلى إيلات" للمخرجة إنعام محمد علي.بالأمس حينما أرخى الليل سدوله على مسجد الشرطة في مدينة السادس من أكتوبر، كنا أصدقاء نبيل الحلفاوي فب وداعه إلى مثواه الأخير في مشهد مهيب عبر عن مدى احترامنا لهذا الفنان الكبير حتى قبل محبتنا له التي ليست محل شك أو مزايدة، فمن شاهد طليقته وأم ابنه الأكبر المخرج خالد الحلفاوي، الممثلة فردوس عبد الحميد وهي تقطر حزنا في مراسم التشييع، يدرك أن الرجل لم يكن يترك لنواقص النفس البشرية مكانا في تعاملاته مع الآخرين حتى مع أولئك الذين كتب لهم القدر أن يفترق كل منهم في طريق.تزوج الحلفاوي في بداية مشواره الفني، فردوس عبد الحميد، التي كانت هي الأخرى في أول الطريق، وأنجبا ابنهما الأكبر خالد، وبعد سنوات تم الإعلان في هدوء عن انفصال الزوجين من دون أن يفصح أحدهما عن أسباب الانفصال، ثم تزوجت فردوس من المخرج محمد فاضل، فيما تزوج هو من زوجته الثانية السيدة نادية التي عملت بالصحافة لبعض الوقت وأنجبت له ابنه الثاني المخرج وليد الحلفاوي، لكن العلاقة بينه وبين زوجته الأولى ظلّت قائمة على الاحترام المتبادل، بل إنهما شاركا معا – على غير المألوف في مثل هذه الحالات – في أكثر من عمل فني ربما كان أبرزها مسلسل "زيزينيا" من تأليف أسامة أنور عكاشة الذي شكل مع الحلفاوي شلة أدبية مماثلة لشلة الحرافيش، كان الاثنان عمادها مع الممثل الراحل صلاح السعدني، وقد دعاني الحلفاوي لحضور بعض جلساتها بعد أن كنت قد تعرفت عليه في أول زيارة لي إلى منزله في منطقة الدقى في القاهرة في أعقاب نجاح الجزء الثاني من مسلسل رأفت الهجان، وطوال مسيرته الفنية كنت أتأكد دوراً بعد آخر أن ما نراه على الشاشة لا يختلف كثيراً عن شخصية الحلفاوي في الحقيقة، رجل راجح العقل، ينتصر دائما للمثل العليا، يحترم الآخر، لا يحب الدخول في مهاترات تضيع الجهد وتشتت الذهن، وهو ما تعكسه ببوضوع تغريدته التي ثبتها على منصة x جاء فيها: " لا يستدرجنك أحد للمهاترات، احترم من يختلف بموضوعية، ولكن تجاهل سيء النية.. لا ترد على شتام.. لا تجادل ضحايا الغيبوبة.. لا تشرح بديهيات.. اشتر نفسك".رحل نبيل الحلفاوي إذن عن سبعة وسبعين عاما، أعطى منها للفن ما يزيد على نصف قرن، فهو من مواليد الثاني والعشرين من نيسان العام 1947 في حي السيدة زينب في القاهرة لأب ريفي من مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط في أقصى دلتا نيل مصر، وتخرج أولا في كلية التجارة قبل أن يدرس التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، ويبدأ مشواره الفني مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي، غير أن سنوات نضجه وأعماله البارزة كانت مع انتصاف عقد الثمانينيات، ولا سيما بعد دوره الفارق في حلقات "رأفت الهجان"، ثم دوره المهم في فيلم "اغتيال مدرسة" للمخرج أشرف فهمي.