لم يعد انتخاب رئيس للجمهورية يعني فقط ملء الشغور، الذي طال، في المنصب الأرفع في الدولة اللبنانية. صار الاستحقاق المؤجل مؤشراً للمرحلة المقبلة وتوازناتها وأرجحيات القوى والقوّة فيها. لذا يشهد الطريق إليه صراع نفوذ وأجندات ومصالح وطموحات، منها الضيقة، بحجم جبل لبنان أو جبل عامل، ومنها ما تتسع لرؤية واشنطن وباريس والرياض والدوحة وطهران.
فهل سيكرس انتخاب رئيس غلبة محور على آخر؟ هل يُفرض إسم "من الخارج" على اللبنانيين أم تنجح القوى والأحزاب السياسية في ابتكار "تسوية"؟ وهل يتفق اللبنانيون على المفاهيم، فيقرأون في كتاب واحد معنى "التسوية" و"التوافق" و"الانتخاب" معطوفاً عليها مواصفات الرئيس؟
دور الرئيس المقبل ومهمته تحددان، إلى حدّ كبير، اسمه. فهل يكون الرئيس فاتحة لعهد من الإستقرار، وربما، الازدهار، أم مديراً لأزمات تتناسل من الانقسام القائم راهناً بين اللبنانيين؟.وهل تتجه المنطقة إلى مرحلة سلام وإعادة إعمار، تنسحب على لبنان، أم أنها بدأت مساراً شاقاً نحو تكريس مشاريع فئوية وتفتيت، ممرها الإلزامي الفوضى؟بحثاً عن رئيس "مدجّن"في خضم كل هذه الأسئلة تتحضر الكتل النيابية لجلسة التاسع من كانون الثاني مستعيدة عدداً من الأسماء القديمة-الجديدة التي تتكرر منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون. زيارات ولقاءات واجتماعات وتشاورات لم ينتج عنها، إلى الآن، سوى مزيد من الضبابية.
فالمعارضة، التي كانت تتهم رئيس مجلس النواب بإقفال المجلس أمام الدورات المتتالية، وعرقلة انتخاب رئيس، تنظر إلى خطوته اليوم بعين الريبة، وإن كانت ستجاريه فيها.
يتقاطع عدد من النواب على اعتبار أن "برّي يريد الإسراع في انتخاب رئيس قبل أن تتبلور تداعيات التغيير الذي أصاب محور الممانعة. فهو، ومعه حزب الله، يدرك جيداً ان إمكانية انتخاب رئيس توافقي قد يكون لها بعض الحظوظ راهناً، لكن الأكيد أن الوقت سيُضعف من هذه الحظوظ لاعتبارات داخلية -أبرزها نتائج الحرب وواقع حزب الله وقوته وحلفائه- وخارجية مرتبطة بعودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتطورات الوضع في سوريا وغيرها".
يضيف هؤلاء أن "برّي يعرف كذلك أن المشروع الإقليمي الإيراني قد سقط، وبالتالي لا بد من "حصانة" داخلية تُبقي على مكتسبات أعوام من استئثار الثنائي بالبلد وسياسته واقتصاده ونقده. وعليه، فإنه يسرّب أسماء "مهيضة الجناح" شعبياً وسياسياً في الوسط المسيحي. حجته أننا جرّبنا رئيساً قوياً وانظروا إلى أين وصلنا، وإن المرحلة تتطلب رئيساً يجيد تدوير الزوايا".
بتعبير آخر، يعتبر كثيرون أن برّي يريد رئيساً "يأتي ليكمل لا لينقض"، أي استمرار الـbusiness as usual على كل الجبهات.يتحدث برّي باسم "الثنائي الشيعي"، لكن ذلك لا يلغي التمايزات في السلوك والأسلوب.
يناور حزب الله بالملف الرئاسي، وسط قلق عارم يعتريه. يعرف استحالة إيصال الرئيس الذي يريده، فتجربة ميشال عون لن تتكرر. وصار وصول فرنجية مستحيلاً. يستعرض الأسماء فلا يامن لغالبيتها.
يستشعر ارتفاع أسهم قائد الجيش جوزاف عون، فيُسَرَّب خبر عن لقاء عاصف بين رئيس وحدة الإرتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا وقائد الجيش، قبل أن تعود "المنار" وتؤكد أن اللقاء كان ممتازاً. ويعتبر نواب من المعارضة أن هذا السلوك "مطابق لما كان الحزب يمارسه من محاولات ترهيب وترغيب مع حلفائه وخصومه السياسيين. وهو يستمر في اعتماده في الموضوع الرئاسي، آملاً أن يستطيع الإتيان برئيس "مدجّن"، قبل أن يتظهر حجم خسائره بشكل حاسم".إرباك المعارضة إذا كان الثنائي الشيعي يستعجل اليوم انتخاب رئيس وفق مواصفات "توافقية" يحددها بعدما "تواضع" مكرهاً، فإن المعارضة تبدو مربكة ومشتتة، ولا تعرف الطريقة الأسلم للتعاطي مع كل المستجدات المفاجئة.
تتفق المعارضة على "وجوب الاستفادة من اللحظة". لكن التباينات تظهر مع ترجمة كيفية الاستفادة. فئة تريد التعاطي مع حزب الله على اعتباره مهزوماً وتسجيل انتصار واضح عليه عبر "انتخاب رئيس سيادي مئة في المئة. فلا يجوز تكرار خطيئة التحالف الرباعي كما في الـ2005 والسماح للحزب بالتقاط أنفاسه، واستعادة مشروعه العسكري والأمني في الداخل، طالما أن مشروعه ضد إسرائيل قد انهزم".
فئة اخرى من المعارضة تتشارك "وجوب انتخاب رئيس سيادي"، لكنها تبحث عن تسوية، إنما "ليس على طريقة برّي وحزب الله التي فيها من التذاكي ما صار مبتذلاً بوضوحه". تحاول هذه الفئة "بلورة أكثر من إسم قادر على تأمين تقاطع بين اللبنانيين، يأمن الجميع له ويستطيع في الوقت نفسه نيل ثقة المجتمعين العربي والدولي لحماية البلد وتطبيق كل المواثيق الدولية ووضع لبنان على سكة النهوض الإقتصادي".وفي الانتظار، ستكون فترة الأعياد المقبلة موسماً سياسياً عامراً بالأسماء والمواصفات، وإن لم يكن مؤكداً أنها ستحمل "هدية" رئاسية للبنانيين.