بعد أسبوع على سقوط النظام السوري، عادت وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية إلى البلاد التي كانت أشبه بثقب أسود، نتيجة التعتيم الإعلامي المفروض عليها وبشأنها من قبل نظام الأسدين منذ سبعينيات القرن الماضي. واليوم بات المراسلون والصحافيون يتنقلون في جولات سريعة من سجن تحت الأرض إلى معتقل سيئ السمعة إلى مركز للتعذيب. ويمرون في طريقهم بعدة مقابر جماعية، ويختمون جولتهم بأحد معامل الكبتاغون والمخدرات التي أغرقت الشرق الأوسط، أو في أحد أنفاق القصور الفاخرة التي عاشت فيها العائلة الحاكمة البائدة، منصدمين في النهاية من وكر المافيا الذي كان يطلق عليه تسمية "سوريا الأسد"، وتم تقديمه على مر السنوات على أنه دولة حضارية علمانية، ضمن الخطاب الرسمي.
والصدمة التي تنقلها وسائل الإعلام من ذلك "الاكتشاف" يمكن ملاحظتها في مواقع التواصل، حتى بين السوريين أنفسهم، ممن كرروا أنهم كانوا يدركون وجود تلك الانتهاكات لكن "ليس بهذا الحجم"، وغيرها من العبارات التي تعطي انطباعاً بأن كل ما كان يكتب من قبل الصحافيين المستقلين والمثقفين السوريين والمنظمات الحقوقية العالمية، لم يكن يصل إلى أحد، خصوصاً ما يخص موضوع التعذيب والمعتقلين الذين كانت صورهم تملأ الفضاء العام طوال الأسبوع، إثر تحريرهم من معتقلات أبرزها "سجن صيدنايا العسكري" الذي وصفته منظمة العفو الدولية "أمنستي" العام 2017 بـ"المسلخ البشري".ومنذ العام 2016 أصدرت "أمنستي" تقارير مطولة عن سجن صيدنايا، بما في ذلك تجارب ثلاثية الأبعاد حاولت فيها شرح الرعب هناك بالاستناد لشهادات الناجين القلائل، ومنذ عقود تتحدث المنظمات الحقوقية العالمية عن ممارسات النظام السوري القائمة على الاعتقال والتعذيب بحق المعارضين والصحافيين والمثقفين تحديداً، رغم أن تلك الممارسات تطال أفراداً لا ينشطون حتى في السياسة والثقافة لمجرد خلافات مع ضباط نافذين أو لزواج أحدهم من امرأة يهودية، وغيرها.وتنتشر اليوم تبريرات تفسر عدم قدرة الصحافة على التأثير في الموضوع السوري، بالقول أن مشاهدة الصورة تختلف عن قراءة كلمات مكتوبة، ورغم أن ذلك صحيح جزئياً إلا أن الحدث السوري شهد حالة بصرية صادمة، حتى في موضوع المعتقلين، بدليل تسريب 55 ألف صورة لـ11 ألف سجين قتلوا تحت التعذيب، وقدمها المصور "قيصر" وعرضت في قاعات الكونغرس الأميركي منذ العام 2014.وفي العام 2012 اعتبر نظام الأسد الثورة ضده "فبركة إعلامية" وطرد وسائل الإعلام العربية والعالمية من البلاد معتمداً على "الإعلام الوطني المقاوم". علماً أن العقود السابقة لذلك لم تكن أفضل حالاً حيث كان النظام يتحكم بالمعلومات من دون وجود لإعلام مستقل، وحتى الإعلام العالمي على قلته كان يعمل تحت إشراف وضغوط، حسبما تظهر تتبع بيانات لمنظمات حقوقية متخصصة بحرية الصحافة.ولعل قبول نظام مجرم مثل نظام الأسد طوال عقود وتقديمه كنظام شرعي لعدم وجود ثورة ضده بنفس حجم ثورة العام 2011، كان يعطي انطباعاً بالاستقرار في سوريا بوصفها دولة آمنة تتواجد فيها انتهاكات قليلة هنا وهناك، وأن المشاكل الحقيقية بدأت فقط بعد العام 2011، وهي سردية رائجة في كثير من التغطيات الإعلامية التي تقدم نضال الشعب السوري للحرية كحراك قصير منذ العام 2014 وليس كنضال مستمر عانى من القمع والتنكيل منذ 54 عاماً.واعتمد النظام السوري المخلوع على الدعم الدولي لتثبيت صورته كدولة علمانية مستقرة، بينما كان يمارس أبشع أنواع القمع في الداخل، مستفيداً من تحالفاته مع قوى مثل الاتحاد السوفياتي ثم روسيا، التي ساهمت في تقديمه كحليف استراتيجي ضروري للمنطقة بوصفه حارساً للبوابة من الجهاديين والإسلاميين، الذين بحسب البروباغندا الأسدية يمكن أن يتدفقوا على أوروبا والغرب، فيما كرس نظام الأسد فكرة أنه دولة مركزية مؤثرة يتم استهدافها بسبب مواقفها الأخلاقية والثابتة.طبعاً، كان ذلك التوصيف، يجافي الواقع، لأن سوريا الأسد نفسها بالموازين السياسية والاقتصادية والثقافية لم تكن دولة مؤثرة إلى حد تجاهل مأساتها الإنسانية، حيث لا تسهم في الاقتصاد العالمي بموارد ضخمة، ولا تقدم مراكز أبحاث علمية متطورة ولا حتى تنتج أفكاراً تنويرية عبر الفنون والآداب والعلوم الإنسانية (إلا على مستوى أفراد وبجهود ذاتية، وغالباً ممن غادروا البلاد واستفادوا من مناخ الحريات الغربية)، مع الإشارة إلى سوريا، الدولة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن طوال تاريخها القصير، سوى عقبة صغيرة ضمن نظام التجارة العالمي القائم على المبادلة الحرة والعولمة والاقتصاد المفتوح.ومنذ سنوات طويلة أدرك قادتها المحدودون ذلك، ربما، ليحولوا البلاد إلى دولة مُصدّرة للأزمات إلى الجوار، وحولوها بذلك الى ورقة ضغط وحيدة وثمينة من أجل بقائهم كنظام واستمرارهم في السلطة، عبر ديناميكيات مع القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك تجارة الأسلحة والتهريب في الثمانينيات والتسعينيات، أو دعم الجهاديين والتسامح معهم كما كان الحال إبان غزو العراق، وصولاً إلى تجارة المخدرات وتصنيع الكبتاغون وانتهاكات حقوق الإنسان، التي كانت مجرد أوراق للضغط من أجل البقاء في السلطة، وربما لهذا السبب يجب رفع شعارات تدعو العالم ككل للتوقف عن التفاوض مع المبتزين والمجرمين والخاطفين وزعماء العصابات، حتى لو كانوا يأتون بصورة رؤساء لدول.وعدم أهمية سوريا بالتحديد، هو ما أبقى النظام المخلوع على قيد الحياة لمدة 54 عاماً، حيث كان النظام مستعداً للمغامرة عسكرياً ضد شعبه وتجاوز الخطوط الأميركية الحُمر باستخدام الأسلحة الكيماوية، لأن المنطق الواضح يقول أن أحداً لم يكن على استعداد لتدخل عسكري ضده على غرار إطاحة صدام حسين العام 2003، وهو الحدث الذي كان مخيفاً للنظام السوري حينها، إلى حد أنه بعد اغتياله لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، اضطر للانسحاب من لبنان والانفتاح قليلاً على الغرب، ولو لم يستمر ذلك طويلاً.ويعني ذلك أن كثيراً مما كان يكتب لم يكن مؤثراً، ربما بسبب أن سوريا ليست تلك الدولة المؤثرة والتي مهما صدرت قيادتها السياسية المخلوعة صورة عنها كدولة مركزية تبقى مجرد دولة هامشية لا تحظى باهتمام يتجاوز الأمنيات بمستقبل أفضل، خصوصاً بالنسبة للجمهور العالمي، خصوصاً مع تقديم الموضوع السوري قبل سقوط النظام وبعده، كجزء من الأخبار الدولية التي تجري في مكان بعيد، بدلاً من تقديمها كما هي عليه بوصفها جزءاً من فيلم رعب طويل امتد طوال 54 عاماً، وكتراجيديا محزنة يجب أن تشعر البشرية ككل بالعار على استمرارها طوال تلك العقود.والتعتيم الإعلامي الرسمي والتغطية الإعلامية الخارجية التي كانت تعطي الشرعية للنظام بوصفه جزءاً من الاستقرار الإقليمي مثلاً، شكلت انعكاساً للسياسات الرسمية بهذا الخصوص، وأسهمت في إطالة أمد الانتهاكات عبر تجاهل الجرائم المرتكبة والتي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية بحسب "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي"، من قبل المجتمع الدولي الذي كان يدرك حتماً حجم المأساة.وبهذا التناقض بين المواقف السياسية والصحافة الشجاعة القليلة التي كانت تشير إلى المشكلة عبر السنوات بصراحة ووضوح، انخلق انطباع بالاستقرار والشرعية بالنسبة لكثير من أفراد الجمهور، حتى من السوريين أنفسهم، بحيث كانت الأنباء التي تنشرها صحف إقليمية من بينها "المدن" منذ العام 2013 أو تقارير من "أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش" و"مراسلون بلا حدود"، تقابل بالتهميش بوصفها الاستثناء لا القاعدة، إن لم يتم تكذيبها من أساسها ووصفها بالمبالغة والكذب والعمالة الخارجية، خصوصاً من قبل داعمي النظام المخلوع في محور الممانعة تحديداً.وفيما يبقى الجانب السياسي مهماً عند الحديث عن مستقبل سوريا وحاضرها، إلا أن الجانب الفردي يبدو اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأن قصص الأفراد والعائلات الذين عاشوا تحت حكم عصابة متنكرة بصفة دولة، هي ما يهم. كيف عاشوا وكيف تم فصلهم وتعذيبهم وقتلهم وتصفيتهم؟ وكيف أثر ذلك على عقلية ونفسية المجتمع السوري ككل، وكيف تم خلق نموذج الخوف كأسلوب للحكم؟ وغيرها من التفاصيل التي يجب ألا تتكرر في سوريا، ولا في أي مكان آخر، مع الإشارة إلى أن التغطيات السياسية المجردة قادرة بحد نفسها على تجريد أبطال القصص الحقيقية، من إنسانيتهم وتحويلهم إلى أرقام وعناصر قابلة للاستبدال.ولعل أهم ما يمكن أن يجب أن يركز عليه السوريون اليوم هو الانفتاح على الإعلام والاستماع إلى الصحافيين والناشطين ممن كانوا يخاطرون بحياتهم وحياة عائلاتهم لإيصال معلومات عنهم، إليهم وإلى العالم. والعقود الماضية أثبتت ماذا يمكن أن يحصل في الخفاء عندما يتم قمع الإعلام وتسييسه من قبل السلطة الفاسدة التي قد يتم تعويمها أو إعادة خلقها وتشكيلها خصوصاً في هذا التوقيت من عدم الاستقرار، خصوصاً من قبل دول مؤثرة لطالما تدخلت في الشؤون الإقليمية بعد ثورات الربيع العربي التي أطاحت بدكتاتوريات عربية راسخة العقد الماضي.