"رشّوا عحالكن غبرة، طحين، طحينة، عملو حالكن من الشعب" (الأخوان رحبانيّ، مسرحيّة "يعيش يعيش").سقط الطاغوت في الشام، وانقضّ علينا الزمن الآخر.
الذين سكتوا عن الجرائم، وباركوا القمع، وألقوا الخطب الرنّانة متغزّلين بالطاغية ومعدّدين مآثره، يدركون اليوم أنّهم كانوا يقفون على الضفّة الخاطئة من مجرى التاريخ، هذا إذا أردنا التفاؤل بذكائهم. بعضهم يبحث عن حفرة يطمر فيها وجهه. وبعضهم قرّر تغيير لونه كما تعلّم من أمّه الحرباء. وبعضهم شرع يدبّج السرديّة الجديدة التي سيلقيها على مسامع الناس سعياً إلى التملّص من مسؤوليّة التهليل والتبريك للسفّاح "قاتل الأطفال"، كما تسمّي الليتورجيا البيزنطيّة هيرودس الملك، الذي سفك دماء أطفال بيت لحم بحسب رواية الإنجيليّ متّى. المؤسّسات الدينيّة الرسميّة تمتلك ناصية هؤلاء الذين بخّروا للطاغوت وأزلامه وتشدّقوا بإحساناته وتغرغروا بمفاتنه. مسؤوليّتها مضاعفة لأنّها تعتبر ذاتها مؤتمنةً على الأخلاق، ومسؤولةً عن تفقيه الناس وإرشادهم إلى مكامن الخطأ والصواب. بعضها ما زال يلتزم الصمت من فرط الصدمة. وبعضها يلجأ إلى عذر أقبح من الذنب قوامه أنّ النصّ الدينيّ يحتّم "إكرام الملك"، وأنّ "إعطاء الكرامة والتعاون مع السلطات (…) يُبنيان على أساس مخافة الله" (من بيان صادر عن بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس بتاريخ 12-12-2024)، وأنّ المعنيّين ما كانوا يعلمون بما كان يجري في الزنازين والمسالخ البشريّة: "الكنيسة تقف أمام تطوّرات هذه الأيّام التي كشفت عن حجم الاستبداد وأزاحت عتمة الظلم عن عيون أبناء هذا الوطن الشرفاء" (من البيان ذاته). أيّ مخافة لله هي هذه التي تقف مع الجلّاد ضدّ الضحيّة؟ أيّ انكشاف هذا الذي تتحدّثون عنه يا أصحاب الغبطة والسماحة والنيافة كأنّ الأيّام تبدي لكم اليوم ما كنتم تجهلونه بالأمس (رحم الله طرفة بن العبد)؟ أين كنتم حين كانت مؤسّسات حقوق الإنسان الثقات ترفع التقرير تلو التقرير منذ اندلاع ثورة السوريّات والسوريّين السلميّة ربيع العام 2011؟ ماذا عن معذِّبي الرجال ومغتصبي النساء الذين سلكت حكاياتهم طريقها المتعرّج حتّى بلغت محاكم ألمانيا وفرنسا وبلجيكا؟ ماذا عن آلاف الصور التي وثّقت التعذيب؟ ماذا عن روائح المحارق البشريّة والأسلحة الكيماويّة وبراميل المتفجّرات التي حصدت رؤوس الأطفال؟ أين قرأتم أنّ إعطاء الكرامة للحاكم يكون على حساب المستضعفين في الأرض، الذين يقف الله إلى جانبهم وينتصر لهم في كتبه المقدّسة جميعها.لكن ما لا يقلّ فداحةً من خطاب التبرير باسم الجهل والتأويل المغلوط للكتب الدينيّة المرجعيّة، الالتجاءُ إلى لغة حقوق "الأقلّيّات" و"مكوّنات" الوطن السوريّ لا على ألسنة بعض قادة المؤسّسات الدينيّة فحسب، بل لدى بعض مَن استلم اليوم دفّة الحكم في دمشق أيضاً. بالأمس، وقبل بضعة أيّام من انهيار نظام حزب البعث في سوريا، كان أحد بطاركة الشرق يزور هنغاريا ويتباحث مع رئيس وزرائها فيكتور أوربان، المغالي في يمينيّته الخرقاء، في كيفيّة حماية "المسيحيّين المضطهَدين"، وذلك بغية استدرار العطف.. والمال طبعاً. يبدو أنّ المقاربات لم تتغيّر كثيراً لدى بعض العقول بالرغم من الزلزال الذي ضرب السياسة والعسكر في بلاد الشام. فثمّة مَن يريد اليوم لسوريا الجديدة نظاماً يحمي حقوق الأقلّيّات كأنّ الجماعات الدينيّة قطعان تؤخذ بالجملة. لقد بحّ حلق أحد الأصدقاء وهو يردّد أنّ الحقوق ليست للطوائف، ولا هي للأقلّيّات والأكثريّات، بل للمواطنين الأفراد. أمّا الجماعات الدينيّة والإثنيّة التي تشعر بالمظلوميّة بفعل تاريخها، فيمكن منحها ضمانات كتلك المعطاة للأقلّيّة الدانماركيّة في ألمانيا مثلاً. لكن وحده الرجوع إلى مفهوم المواطنة الحقّ بعيداً من منطق الغالبيّة والأقلّيّة، وما يمكن أن يستدعيه هذا المنطق من تحالفات مشبوهة وانجذاب إلى الحمايات ذات النكهة الكولونياليّة، كفيل بأن يشكّل شبكة أمان وخشبة خلاص لا للوطن السوريّ فحسب، بل لدول المشرق العربيّ جميعها. وقد آن الأوان أن يخرج القادة الدينيّون من تكوّمهم على مؤسّساتهم التافهة، وأن يتحوّلوا إلى صوت صارخ يدافع لا عن حقوق جماعاتهم، بل عن ضرورة استعادة المواطنة بوصفها القاعدة التي ينبغي أن تبنى عليها مجتمعاتنا بعد كلّ ما تعرّضت له من تنكيل وتخريب وتفكيك.
لكن، قبل ذلك، حريّ بقادة المؤسّسات الدينيّة أن يعتذروا إلى السوريّات والسوريّين عن صمتهم وتلكّؤهم وتخاذلهم وتقوقعهم، ووقوفهم أحياناً في هياكل الطاغية مبجّلين مبخّرين مكبّرين. وحريّ بهم أن يندموا، وأن يستغفروا علانية، وأن يطلقوا ورشةً تصالحيّةً حقيقيّةً مع الناس وفي ما بينهم، وأن ينصرفوا إلى محاربة الفساد الذي ما زال يعيث فساداً في مؤسّساتهم، والذي لم تزده الحرب السوريّة إلّا تفاقماً وفداحة.
لقد تهاوت الأصنام في بلاد الشام، يا سادة، وانقضّ عليكم الزمن الآخر. فحذارِ من نصب أصنام جديدة باسم الدين والطائفة والعرق والإثنية. ومن له أذنان للسمع فليسمع.