أعود إلى حكايات كثيرة أخبرني إياها والدي عن "الردع السوري"، حين كان شاباً يافعاً يقطن منطقة باب التبانة، مسقط رأسه في طرابلس ومكان سجله الممهور على الهوية. كان هذا السجل تهمة كافية لاعتقال وتعذيب وقتل كل من يحمله، على أيدي قوات حافظ الأسد، منذ دخولها إلى لبنان في منتصف السبعينات.في الثمانينات، عاش والدي يوماً ظل محفوراً في ذاكرته، على شاطئ الميناء، مع ثلاثة من رفاقه من باب التبانة أيضاً. كانوا من بين كثر من شبان طرابلس الذين لم ينخرطوا في المواجهات المسلحة التي عاشتها المدينة، عندما كانت باب التبانة مقراً وحاضنة لـ"المقاومة الشعبية" بقيادة ابنها خليل عكاوي (أبو عربي).كان يومهم عاديًا قضوه في السباحة والاستجمام. وبعدما أدوا صلاة الظهر جماعة على مقربة من الشاطئ، فوجئوا بسيارة جيب كبيرة تسرع في اتجاههم. وبعد دعسة فرامل قوية، ترجل منها عدد من المسلحين التابعين لقوات الردع السورية. يقول والدي: "خرطشوا البواريد نحونا، كانت لحظة صادمة". ألقوا القبض على والدي ورفاقه بالقوة، ومن دون إنذار أو تهمة. اكتفوا فقط برؤية هوياتهم، ثم قالوا بلهجة الضباط السوريين، وما تعكسه من تشبيح واستعلاء وتسلط: "من باب التبانة أنتم".كانت الوجهة إلى المركز المعروف باسم "مركز الأميركان". وحين سألتُ والدي عن هوية هذا المركز ومكانه، رد سريعًا: "كان أشهر من نار على علَم، مركز قوات الردع والمخابرات السورية في حي الأميركان في القبة".هناك، قضى يومين مع رفاقه قبل أن يتدخل أحد الناشطين في طرابلس للإفراج عنهم. يومان من الضرب المبرح. ضرب مجاني على أيدي عناصر "أنجاس ومرضى وبلا شرف". هكذا يصفهم والدي، وهذا أقل ما يقوله عنهم جيل كامل في طرابلس، وتحديدًا في باب التبانة، ممن اختبروا وحشية "الردع السوري".قصصٌ كثيرة أعرفها من أهالي باب التبانة، عن ذاكرتهم الأليمة مع "الردع". قبل سنوات، كنتُ أعمل على تحقيق صحافي عن المنطقة والمجموعات الإسلامية التي ورطتها قيادات سياسية في طرابلس في مواجهات مسلحة مع أبناء جبل محسن من الغالبية العلوية. تلمّست آنذاك حزنًا عميقًا ومشتركًا بين أبناء المنطقتين اللتين تجمعهما ذاكرة مليئة بالدم. أحد شهود العيان في باب التبانة، قال لي يومها: "ليست لدينا مشكلة مع أبناء محسن. مشكلتنا الفعلية مع حزب البعث وبدأت مع حافظ الأسد شخصيًا". أخبرني الرجل كيف كانت "ألوهية حافظ الأسد عقدة قوات الردع السورية". وفي معظم المرات، عندما كانوا يعتقلون شباناً طرابلسيين، كانوا يجبرونهم على القول تحت التعذيب: "حافظ الأسد هو الإله"، ردًا على سؤال: "مين الله؟".على مدار أكثر من 15 عامًا، غرقت طرابلس في حمّام من الدم على يد الجيش السوري، الذي خاض حربًا لبسط سلطته ونفوذه على المدينة، بعدما اتخذت قيادة المخابرات السورية مقرًا لها في منطقة جبل محسن. وفي مطلع الثمانينات، ارتسمت محاور القتال بين منطقتي باب التبانة، وجبل محسن الذي كان بقيادة زعيم "الحزب العربي الديموقراطي" الراحل علي يوسف عيد، وهو أبرز مؤيدي وأزلام حافظ الأسد خلال الحرب الأهلية اللبنانية.حينها، عرفت باب التبانة صعود الشاب اليساري "أبو عربي". منذ أسس "المقاومة الشعبية" في أواخر السبعينات، ثم قام بحلها لصالح "حركة التوحيد" الإسلامية، بعدما لجأ ياسر عرفات مع قواته إلى طرابلس، وطرده الجيش السوري منها عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت العام 1982. لكن أبو عربي بقي يردد: "لن يدخل الجيش السوري إلى باب التبانة إلاّ على جثتي".عاشت طرابلس أهوال الوجود السوري على أرضها، بعدما اندلعت فيها وفي مخيم البداوي الفلسطيني، في خريف 1983، اشتباكات عنيفة بين حركة "فتح" بزعامة أبو عمار، وحركة "فتح- الانتفاضة" بقيادة "أبو موسى" الموالي لحافظ الأسد.ومثلما ارتكب حافظ الأسد مجزرة حماة الشهيرة العام 1982، ارتكبت قواته مجزرة دامية في شوارع باب التبانة وأزقتها، في شتاء 1986. مئات القتلى سقطوا خلال 36 ساعة، جلّهم من النساء والأطفال. كان والدي شاهدًا على المجزرة وناجيًا منها، حين استوقفه حاجز "الردع". يقول: "قلت يومها خلص، رح يقتلوني، ثم تدخل رجل وأفلتني منهم".وفي 9 شباط 1986، كانت مقتلة طرابلس وباب التبانة، باغتيال أبو عربي برصاصة قنص، بعد لقاء جمَعه مع وزير الداخلية السوري الأسبق محمد الشعار، في منطقة أبي سمرا.لكن بشار الأسد، ورث يدَي أبيه الملطختَين بالدم الطرابلسي. بقيت طرابلس المسلوخة عن سوريا منذ تأسيس لبنان الكبير، عقدة لآل الأسد. وكان قتل أبنائها وسفك دمائهم، الأداة الوحيدة للتعويض عنها. ومثلما تعاملوا مع السوريين في سوريا، تعامل الأسدان مع طرابلس، حتى بعد خروج الجيش السوري من لبنان العام 2005.هذا ما تقوله جدران باب التبانة المنخورة برصاص الحروب المتتالية. وأيضاً برصاص أكثر من عشرين جولة قتال أرادها وافتعلها بشار الأسد، بين باب التبانة وجبل محسن، بين العامين 2008 و2014، وكانت ذروتها تفجير مسجدَي التقوى والسلام في 23 آب 2013.هكذا، أصبح 8 كانون الأول 2024 تاريخًا مجيدًا في ذاكرة طرابلس. تاريخ انتصار المدينة على أسدَين بطّاشَين، وتحررها من سطوة الذاكرة الدموية التي لاحقتها عقودًا طويلة. هو يومٌ، تجرّدت فيه طرابلس من عار الأسدَين، واحتفلت بنهاية نظامٍ جثم على صدرها لسنوات.والمفارقة الكبرى، أن شعار "ردع العدوان" الذي جعل من بشار الأسد رئيسًا مخلوعًا، أصبح اليوم بمثابة ردع رجعي، ينتقم من إرث "الردع السوري" في طرابلس. وها هي المدينة، ترقص اليوم فرحًا لسقوط هذا النظام إلى الأبد. طرابلس، التي ما زالت تحتفظ في قلبها بذكريات النظام السوري الأليمة، تكتب الآن تاريخًا جديدًا من الانتصار والحرية، بمعيّة الشعب السوري.