يكشف تحقيق استقصائي أجرته صحيفة "العربي الجديد" كيف فر آلاف الطلاب الجامعيين، ومنتسبو الدراسات العليا من جيش الأسد، عبر الرسوب العمدي للهروب من الخدمة العسكرية الإجبارية.
وخلال مقابلة مع الصحيفة، يبتسم سامر علي الطالب في السنة الأخيرة بكلية الحقوق في جامعة تشرين في اللاذقية (335 كيلومتراً شمال غربي دمشق) حين يتذكر تمثيله أداء الامتحانات بينما يتعمد الإجابة بعشوائية، فهو "آت ليرسب"، إذ لا يعني التخرج له ولأصدقائه بداية حياة جديدة، بل قد يصبح نهايتها، بسبب السوق للخدمة العسكرية الإلزامية المفروضة على الرجال عند بلوغهم 19 عاماً، ولمدة عامين، لذا يسعون إلى الهروب من الخطر المحدق بهم، حتى لو كان عبر خسارة سنوات عمرهم رسوباً.علي ورفاقه ليسوا بمفردهم، إذ يكشف التحقيق عن ظاهرة الرسوب العمدي لطلاب الجامعة ومنتسبي التعليم المفتوح، ومماطلة الخريجين في إنجاز رسائل الماجستير والدكتوراه من أجل تأجيل الخدمة العسكرية الإلزامية، عبر تحليل بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ومقارنتها بمستويات ما قبل عام 2011، والتي كشفت عن انخفاض في نسبة الخريجين الذكور مقارنة بالإناث اللائي لا يخضعن للتجنيد الإجباري، فبينما تخرج في العام الجامعي 2009-2010، بجامعة دمشق 14 ألفاً و820 طالباً وطالبة بلغت نسبة الذكور بينهم 45 في المئة بواقع 6.700 خريج و8.120 خريجة، وانخفضت النسبة بين الذكور لتصل إلى 39 في المئة في 2020-2021، من إجمالي 16 ألفاً و642 خريجاً وخريجة، بواقع 5.803 خريجين وعشرة آلاف و839 خريجة، بحسب آخر إحصائية حصل عليها "العربي الجديد".كذلك في جامعة حلب انخفضت نسبة الخريجين الذكور من 53 في المئة عام 2009-2010 لتصل إلى نحو 38 في المئة عامي 2020-2021، من إجمالي 6384؛ من بينهم 2433 خريجاً و3951 خريجة.مشهد جامعي مؤطر بقواعد التجنيدفي نهاية العام الدراسي، يسأل مئات الراسبين، عبدالله يوسف عضو الهيئة الإدارية الطلابية لجامعة دمشق (تعمل تحت إشراف الاتحاد الوطني لطلبة سورية)، إن كان يحق لهم تأجيل الخدمة العسكرية، و"الظاهرة في تزايد سنوياً"، كما يقول.لذا لم تعد الرغبة الشخصية وحاجة سوق العمل والأسباب الذاتية الأخرى، دافعاً قوياً وراء اختيار الطلاب لتخصصهم الدراسي بل انضم إلى كل ما سبق قواعد الخدمة العسكرية أيضاً، كما يقول الطالب محمد عبدالله، والذي يدرس الهندسة في جامعة حلب لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أن أفضل تخصص هو ما يمنحهم المزيد من سنوات التأجيل. يضيف: "كثيرون يختارون الهندسة لاستطاعتهم التأجيل حتى عمر 27 عاماً، ثم يخدم المهندس سنة ونصف حسب آخر قرار ضابطاً لا مجنداً، عكس الكليات الأخرى كالآداب والعلوم وغيرها، فخريجوها يخدمون سنوات أطول".وقواعد التأجيل الدراسي يحددها المرسوم التشريعي رقم 30 الصادر في 3 مايو/أيار 2007 المتضمن قانون "خدمة العلم" والمادة العاشرة من المرسوم التشريعي 12 لسنة 2019، بـ"ألا يتجاوز عمر الطالب 24 سنة في المعاهد التي تكون مدة الدراسة فيها سنتين، و25 سنة في المعاهد التي تكون مدة الدراسة فيها ثلاث سنوات، و26 سنة في الكليات ذات الأربع سنوات، و27 سنة في الكليات ذات الخمس سنوات، و29 سنة في كلية الطب البشري، وتؤجل الخدمة لطلاب الدراسات العليا حتى عمر 28 سنة لطلاب الدبلوم التأهيلي والتخصص و37 سنة لطالب الدكتوراه الحاصل على شهادة الدراسة العامة أو التخصصية أو الفرعية".لكن "عادةً ما توجد تعقيدات وحالات تستوجب الرجوع للموظفين ذوي الخبرة" يقول عبد الله يوسف، ويجمل الحدود الزمنية للتأجيل بأنه: "في السنة الجامعية الأولى يعتبر مستنفداً (لا يحق له التأجيل) من يرسب عامين متتاليين، وطالب السنة الثانية يستنفذ عندما يتم أربع سنوات في الجامعة ولم يترفع للسنة الثالثة، ويستنفد طالب السنة الثالثة حين يتم خمس سنوات جامعية دون الترفع للخامسة، أما طالب السنة الرابعة فيستنفد حين يتم ثماني سنوات جامعية ولم يتخرج بعد".طرق أخرى للتخلص من الخدمة الإلزاميةيلجأ سوريون إلى تسجيل أنفسهم في برامج التعليم المفتوح سعياً لسنوات تأجيل أكثر، ومن بينهم كريم حسين الذي يدرس الاقتصاد في البرنامج المتاح بجامعة طرطوس إلى جانب دراسته في معهد فني صحي حتى يجد فرصة للسفر، ويتسق الأمر مع بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تؤكد تزايد عدد الطلاب الذكور المسجلين في نظام التعليم المفتوح مقابل انخفاض الخريجين؛ ففي عام 2013-2014 سجل 122 ألفاً و558 طالباً في نظام التعليم المفتوح وسجل 122 ألفاً و491 طالباً في 2014-2015 (آخر عام جامعي تم إحصاؤه) تخرج منهم فقط ثلاثة آلاف و254 شاباً، وهي زيادة كبيرة في عدد المسجلين في حال مقارنتها مع بيانات عام 2010-2011، إذ سجل 80 ألفاً و797 طالباً في التعليم المفتوح، تخرج منهم خمسة آلاف و196 شاباً.وللسبب ذاته، يوقف طلاب تسجيلهم الجامعي مؤقتاً، من بينهم عامر سليم ويعمل حالياً مندوب مبيعات في دولة الإمارات، بعدما تخرج في كلية الهندسة الزراعية بجامعة حلب، ويقول إنه أوقف تسجيله خلال سنوات الدراسة "فلا يُحتسب ضمن سنوات الرسوب، وهكذا يصبح لديّ مرونة أكبر في التأجيل، فحسب القانون أستنفد في السنة الثالثة حين أتم خمس سنوات جامعية دون ترفع، لكنّ إيقاف التسجيل بين هاتين السنتين منحني سنة تأجيل إضافية"، وهو نهج قانوني بموجب قرار مجلس التعليم العالي الحكومي رقم 48 لعام 2006 الذي يجيز ﻟﻠﻄﺎﻟﺐ إيقاف ﺗﺴﺠﻴﻠﻪ ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﻃﻠبه، وتؤكد "سكينة" (اسم مستعار لموظفة في شعبة التجنيد الوسيطة في دمشق؛ المسؤولة عن إدارة وتنسيق عمليات التجنيد الإلزامي والاحتياطي) أحقية الطالب الجامعي في تأجيل لمدة عام واحد بعد إيقاف التسجيل لسنة واحدة، ويرفض طلب التأجيل إذا أوقف التسجيل سنتين متتاليتين.الدراسات العليا باب خلفي للتأجيللدى طلاب الدراسات العليا مسار يتيح سنوات تأجيل أطول، وهذا هو الهدف الوحيد الذي دعا مهند محمد (25 عاماً)، لدراسة الماجستير في جامعة حلب كما يؤكد لـ"العربي الجديد" ويضيف: "بما أنّ كليتي أربع سنوات أستطيع التأجيل حتى الثلاثين، وأجلتُ في السنة الأولى مرتين؛ الأولى بشكل روتيني والثانية رسبت عمداً".ما سبق تؤكده دراسة "أثر الأزمة في سوريا على التعليم العالي - حالة جامعة تشرين نموذجاً" للباحثين أيمن العشوش وسوزانا خضرة المنشورة في مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية مارس/آذار 2019، إذ انعكست تداعيات الأزمة السورية على عدد الأبحاث الجامعية المسجلة في مقابل تلك المنجزة "بسبب رغبة بعض الطلاب تأجيل التحاقهم بالخدمة العسكرية من خلال استكمال دراساتهم العليا".وتتسق نتائج الدراسة مع أخرى ميدانية للباحثين بيان خليفة وأسامة دخان وسليمان موصلي بعنوان "الماجستير في ظل الأزمة: الدوافع البارزة لطلاب جامعة دمشق للتسجيل في برنامج الدراسات العليا" نشرت في "المجلة الدولية للإدارة التربوية" (دورية بريطانية ربع سنوية) في مايو 2018 وقابل خلالها الباحثون 11 طالب ماجستير بالجامعة، ووجدوا أن الرغبة في تأجيل الخدمة العسكرية سبب رئيسي دفعهم لدراسة الماجستير.ما توصلت إليه الدراستان يتضح عبر مقارنة بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لرسائل الماجستير المنجزة في سنوات ما قبل 2011، والتي عكست تفوقاً واضحاً للذكور على الإناث بنسب 63.4 في المئة للذكور في عام 2006-2007 و65.6 في المئة لعام 2007-2008 و65.4 في المئة لعام 2008-2009، بينما عقب الأزمة انقلب ليسجل عام 2010-2011 تفوقاً للإناث بنسبة 53.2 في المئة وفي 2015-2016 وهو آخر عام تم إحصاؤه تفوقت الإناث بنسبة 50.2 في المئة من مجمل الرسائل المنجزة، ما يعني أن الذكور يسجلون الرسائل ولا يتمونها تهرباً من السوق للخدمة الإلزامية.كيف أثرت الظاهرة على سوق العمل؟قدرت دراسة أعدت لصالح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في سورية أغسطس/آب 2018، الانخفاض في حجم قوة العمل في المنشآت التي شملتها الدراسة بنحو 51 في المئة من حجمها قبل الأزمة، وهي نسبة متسقة مع بيانات المكتب المركزي السوري للإحصاء (حكومي)، التي توثق تناقص نسبة المشتغلين الذكور الجامعيين في القطاعين الحكومي والخاص مقارنة بعام 2011-2012 الذي شهد توظيف 199 ألفاً و635 شاباً في القطاع الحكومي من أصل 320 ألفاً و232 وظيفة، بنسبة 62 في المئة، وهذه النسبة انخفضت في 2019-2020 إلى 51 في المئة بواقع 175 ألفاً و287 شاباً من أصل 341 ألفاً و793 وظيفة، ووصلت نسبة الذكور الجامعيين في القطاع الحكومي إلى أدنى مستوى لها بـ 43 في المئة عام 2022-2023، وفي القطاع الخاص انخفضت نسبة الجامعيين الذكور من 80 في المئة عام 2011-2012 إلى 67 في المئة عام 2019-2020 واستمرت النسبة في الانخفاض لتسجل 65 في المئة عام 2022.الانخفاض هذا ألقى بظلاله على سوق العمل التي باتت تفتقر للذكور الجامعيين، كما يلاحظ محمد توفيق ويعمل مديراً لمعمل أدوية بدمشق، قائلاً لـ"العربي الجديد": "80 في المئة من العاملين لدي في الأعمال الإدارية والمكتبية والدعائية إناث، وفي مجال كالدعاية الطبية، يوجد 9 إناث من كل 10 مندوبين، بينما كانت قبل الأزمة 6 من 10".ويضيف: "نعاني حتى نجد شاباً حين تتطلب طبيعة العمل ذلك، على سبيل المثال 70 في المئة من العاملين الذكور في المستودعات فوق الخمسين، بعدما كانت الأغلبية شباناً قبل 2011"، أما محمد علي وهو صاحب شركة للأدوات المنزلية في حلب، فأكد لـ"العربي الجديد" أنه لاحظ الظاهرة منذ عام 2017، إذ عمل معه ستة شبان في سنة التخرج من كليتي التمريض والهندسة، قالوا إنهم رسبوا عمداً لتوفير مبالغ مالية تمكنهم من الإنفاق على أنفسهم في حال التحاقهم بالخدمة الإجبارية، أو عدم تأمين عقد عمل خارج البلاد.ولا يمكن لوم الطلاب على الرسوب العمدي تأجيلا للتجنيد، فالأجدر إلقاء المسؤولية على النظام، كما يقول أفرام فؤاد، (اسم مستعار لأستاذ بجامعة حلب خوفا على سلامته) فالجامعات صارت مؤسسات أمنية وسياسية، ومن هنا "الواقع التعليمي تغير ونظرة المجتمع للرسوب تغيرت من عار ووصم إلى ذكاء وبعد نظر، ومن حفرةٍ ينبغي تجنبها إلى وسيلة لتحقيق هدف"، فيما يرجع الأستاذ المساعد في جامعة البعث بحمص وائل منير تنامي الظاهرة إلى "ضيق الأفق وانعدام الأمل من الوضع الاقتصادي المزري، فالطلاب مدفوعون برغبتهم في السفر لتحسين معيشتهم".للاطلاع على الوثائق المنشورة في التقرير أنقر (هنا)