عندما استولى حافظ الأسد على السلطة في سوريا، لم تكن لدى الحكومات التي سبقته، والقوى التي حكمت سوريا، منذ خروج الدولة العثمانية، خطط معلنة أو معروفة، لإنشاء سجون عملاقة، غير تلك التي يعرفها السوريون تاريخياً. فدمشق، على سبيل المثال، لديها سجون معروفة، هي سجن القلعة وكركون الشيخ حسن، وهي الأكبر بمقاييس تلك الأيام، والتي تتناسب مع عدد السكان في المدينة، أو في عموم البلاد. وحين أنشأ الفرنسيون سجن المزّة، كان مخصصاً للعسكريين، لا للمدنيين، وينطبق هذا على سجن تدمر الصحراوي الذي بُني أصلاً كإسطبل لخيل الجنود، لكن اتساع نطاق معارضة السوريين للانتداب، سرعان ما جعل السلطة المنتدبة تستخدمهما لاحتجاز الثائرين ضدها.وفي سجن المزّة، قرّر حافظ الأسد أن يضع رفاقه في قيادة الحزب والدولة، بعدما انقلب عليهم في العام 1970، وكان الخيار أمامهم إما التسليم له، أو الذهاب إلى المزّة، حيث سيبقى أبرزهم لعشرات السنين، ولن يخرجوا إلا مرضى بلا أمل في النجاة، كرئيس الدولة الأسبق نور الدين الأتاسي، أو موتى كصلاح جديد، الأمين القطري المساعد الأسبق لحزب البعث، فيما سينجو البعض بمحض الصدفة، ليعيشوا ويرووا التفاصيل عما جرى وحدث في ذلك الزمن.ازدياد حجم معارضة الديكتاتورية الأسدية وسياساتها اعتباراً من العام 1974، جعل النظام يواجه حاجة مُلحّة، لإنشاء سجون عملاقة، كما أن توجه وزارة الثقافة لاستعادة الأمكنة الأثرية، التي استخدمت كسجون، مثل قلعتي دمشق وأرواد، عزز الحاجة إلى إنشاء سجون مدنية وعسكرية، تتناسب طردياً مع ازدياد عدد السكان.(سجن صيدنايا، أو المسلخ البشري)وفي هذا الإطار، ولدت خطة النظام الأسدي، لإنشاء المسلخ البشري أو سجن صيدنايا. وبحسب مصادر متقاطعة، فإن الأرض التي بُني عليها السجن، مُصادرة من أصحابها، وفق قانون الاستملاك. وقد اختيرت بسبب استراتيجية موقعها، فهي تلّة مشرفة، وهي من ناحية الجغرافيا شبه محصنة، في منطقة جبلية في شمال العاصمة دمشق، وتقع ضمن منطقة بعيدة من مصادر القلق الطائفي، لنظام يحسب حساب وضع الأكثرية غير المأمونة الجانب، ويسترخي أمام الأقلية التي يظن أنها لن تكون صِدامية مع السلطة! ومن هذه الزاوية، ربما كان وجود مدينة صيدنايا المسيحية والشهيرة بدَيرها التاريخي، عنصراً مغلباً لاختيار المكان.وقد بدأت عمليات الإنشاء منذ العام 1980، بعدما تمّت الموافقة على تصميمه العمراني، وغير معروف إن كان روسياً أم رومانياً أم ألمانياً شرقياً، فهذه المعلومات تعتبر سرية وفق قانون الطوارئ. لكن من الثابت أنّ افتتاح السجن حصل في العام 1987، بالتزامن مع حدثَين لافتَين، يدلان على حالة انتشاء هائلة، كان يعيشها نظام حافظ الأسد. الأول، هو افتتاح دورة ألعاب البحر المتوسط في مدينة اللاذقية، بعدما جُندت موارد الدولة كلها، لإنشاء المدينة الرياضية، بينما كان السوريون قد بدأوا يعانون شظف العيش (يتذكر السوريون كيف طلب حافظ الأسد من السوريين آنذاك شد الأحزمة على البطون بينما كانت الأموال تصرف على إنشاء المعتقلات والأفرع الأمنية)، بسبب سياسة اقتصادية متردية، يربطها البعض بالحصار الاقتصادي على النظام، بالتوازي مع سياسة أمنية غير مسبوقة، توسعت بعد الصدام المسلح مع جماعة الأخوان المسلمين، وقامت على تكثيف الحضور الأمني، وإبراز السيطرة. فشيّدت عشرات الأبنية، لتكون مقرّات للأفرع الأمنية والمفارز، في كل مدينة وناحية وقرية، وكان التتويج الأهم الذي حدث في ذلك العام، حملة اعتقالات شرسة شنّها "فرع فلسطين" التابع لشعبة المخابرات العسكرية ضد تنظيم حزب العمل الشيوعي على مستوى سوريا كلها ولم توفر تنظيمات أخرى كالحزب الشيوعي–المكتب السياسي، وتنظيمات ماركسية صغيرة أخرى. الأمر الذي قضى فعلياً على الحزب، بعد اعتقال ما يقارب 10 آلاف من أعضاء وأصدقاء الحزب وعائلاتهم، وأُفرج عنهم تدريجياً، ليُحتفظ بمن ثبت عليه الانتماء أو العضوية، وأيضاً كل من اطلع على جريدة "الراية الحمراء"!(سجن رومية في لبنان)الاستطراد حول ما جرى في ذلك العام، يهدف هنا إلى إبراز أن التصوّر الفعلي عن مخطط بناء السجن، لم يكن متروكاً خارج ضرورات تعميق التفكير بالسيطرة، حيث يجب الانتباه إلى أن الشكل الشعاعي، الذي جاء عليه تصميم المبنى، إنما يستند إلى فكرة فلسفية صنعها صاحب رؤية، هو الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام في أواخر القرن الثامن عشر، الذي قدم نموذج سجن "البانوبتيكي" (Panopticon). ويمكن تلخيص الجذر الرئيس له، بضرورة أن يُراقب السجناء من خلال نقطة واحدة، أي أن يتم سجنهم في زنازين، يمكن مشاهدتها من هذه النقطة.الجوهر الإجرائي التقني، لا بد أن يقودنا إلى فكرة أخرى، اشتغل عليها آخرون هي فكرة السلطة، التي تهيمن على المجتمع، وتراقبه، وتتحكم فيه، ولا تترك شيئاً يفلت منها. فالنموذج الشعاعي للسجن، يتناسب تماماً مع سيطرة "الأخ الأكبر"، بحسب تعبير الروائي جورج أورويل في روايته "1984". لكن ما يمكن اعتباره مجرد عمل تقني، يوفر على السجّانين الجهود، من أجل التحكم بالمسجونين، يتحوّل إلى قضية أعمق، لدى النظام الأمني الأسدي. فليس كل سجن ذي بناء شعاعي يقصد به أن يكون رمزاً للسلطويات الفاشية والنازية والأسدية. ثمة سجون كثيرة بُنيت وفق هذا الشكل، ومنها على سبيل المثال سجن رومية في لبنان، بل إن هذا يرتبط بقصدية، يجب أن تكون متوافرة أصلاً لدى أصحاب السلطة ذاتها.(الزائر كانت ترهبه الإجراءات الأمنية)ذهبتُ إلى سجن صيدنايا مرّات عديدة، في النصف الثاني من عقد الثمانينيات، بقصد زيارة أخي السجين آنذاك، بتهمة الانتماء إلى حزب العمل. لكن الزائر الذي سترهبه الإجراءات الأمنية، وطول المسافة بين بابه الرئيس وبين البناء الأساسي، وحقول الألغام التي تحيط به، لن يفهم كيف يجري الأمر بالنسبة للنزلاء. فالزيارة لا تتضمّن جولة في داخله، بل هي مقابلة بين الزوار والسجين، وبينهما قضبان حديدية، ومسافة تزيد عن متر ونصف. لكن المؤكد أن ضخامة السجن كانت كافية، لإدراك أنه يتسع جداً، ليحتوي فئات سياسية سورية شتى، وأنه سيصبح المقابل الرمزي للمجتمع السوري نفسه! وكلما كان النظام يوغل فحشاً في تدميره للمجتمع والبشر، كانت أحوال السجن ذاته تتردى، حيث لا مراقبة على أداء المسؤولين عنه، والعاملين فيه، وسيشهد في العام 2008 استعصاءً طويل الأمد، وستظهر بعد ذلك لمحات عما كان يجري فيه، لا سيما احتفاظ النظام بمجموعات من المتشدّدين الإسلاميين، يستخدمهم كلما أراد، عبر قيادتهم من الخلف، فيوجههم نحو أهداف تخدم مصالحه. وهكذا أنتجت "أكاديمية صيدنايا"، بحسب تعبير أحد أشهر السجناء، ممن برزوا خلال الثورة السورية هو نديم بالوش، الذي انتحر في سجن تركي في العام 2016، عشرات من قادة التيار الجهادي الذي ظهر في الفصائل السورية المسلحة.المخفي مما حدث في السجن الشعاعي، رصدته خلال سنوات طويلة، منظمات حقوق الإنسان، لكن ما رآه العالم كله، من كارثة لا إنسانية، لا سيما استخدام النظام لآليات إبادة، ومحو أثر، يكفي للقول إنّ الرغبة في السيطرة، تتحوّل مع اقتراب التهديدات لأصحابها، إلى عمل تدميري منهجي، لا يوفر أي بشري! وكما أنتج النازيون معتقلات رهيبة، لا يمكن للإنسانية أن تنساها، صارت لدى السوريين حكاية مشابهة، سبق أن تحدثوا عنها مطولاً، لكن أحداً لم يستمع، فقُتل في صيدنايا عشرات الآلاف من الناس، وتحولوا بعد انكشاف تفاصيل الكارثة، إلى مجرد أرقام، يصعب من وفرتها إثبات حجمها.