حين سقط الإتحاد السوفياتي، بقي أرشيف الدولة المركزي في موسكو، ولا يزال حتى الآن، يحمل ختم "سري للغاية". ولو رُفعت السرية عن هذا الأرشيف، وهو ما لا يمكن تخيله في ظل سلطة بوتين، لكنا عرفنا مع السوريين من لقّن السفاحين الأسديين دروس الوحشية والبربرية التي نشاهدها الآن مع العالم بأسره على شاشات التلفزة. شاشات التلفزة الروسية الرسمية وحدها لا تعنيها الصور وشرائط الفيديو التي تنقل ما تتكشف عنه أقبية السجون الأسدية من فظائع وبربرية لا يتصورها عقل بشري سويّ، مهما اتسعت مخيلته.كان نظام البعث السوري في طليعة الأنظمة في المنطقة التي تسلحت بمقولة البلاشفة "الأنظمة الوطنية الديموقراطية"، والتي أطلقها البلاشفة لتوسيع رقعة نفوذهم إلى البلدان النامية التي لم تتمكن الأحزاب البلشفية فيها من الإستيلاء على السلطة. وانضوى النظام تحت مظلة إمبراطورية البلاشفة السوفياتية، وأفاد من كل رُشاها، واستقبل "مستشاريها" في كافة الحقول، بما فيها الأمني والعسكري والمخابراتي. ونشط هؤلاء المستشارون في تلقين البعثيين السوريين وأجهزتهم، كل خبراتهم في بناء المؤسسات، وفي القمع والتنكيل والقتل ضد كل رأي ناقد لهم في الإمبراطورية الروسية، والتي ألبسوها كلها رداء ستالين الذي ما زالت تماثيله تقام في أنحاء روسيا.النظام السوفياتي في العراق كان أول الساقطين، لكن على أيدي الأميركيين، ومن ثم تبعه النظام السوفياتي في ليبيا. أما نظام البعث في سوريا، فقد بقي متدثراً بالعباءة الروسية، إلى أن جاءت الثورة السورية العام 2011 وبدأت تنزعها عن الجسم السوري. لكن روسيا، التي استعاد جهاز KGB بلشفيتها ونصب بوتين على رأسها، عادت إلى سوريا بوجهها البلشفي الحقيقي. عادت، ليس بلباس المستشارين والخبراء، بل بطيرانها الحربي وأسطولها البحري وسفاحيها من مجموعة "فاغنر"، وعاثت في سوريا قتلاً وتدميراً لتثبيت عرش الأسد الذي كان يتهاوى تحته. غير أنها لم تنجح على مدى تسع سنوات من القتل والتدمير، بالتعاون مع إيران وميليشاتها، من تثبيت هذا العرش، إلى أن هوى أخيراً تحت أقدام السوريين، وخسرت روسيا سوريا أخيراً.تتضارب آراء الخبراء والمحللين ما إن كانت روسيا خسرت سوريا وخرجت منها نهائياً، كما إيران وميليشياتها، أم أنها ستحتفظ فقط بقاعدتيها في طرطوس وحميميم، وبالتمثيل الدبلوماسي المتبادل، كما بقية الدول الأخرى. ويبدو أن التمثيل الدبلوماسي لن يتأذى، فالسوريون لم يدخلوا السفارة الروسية في دمشق ويعيثوا فيها تخريباً، كما فعلوا في السفارة الإيرانية. والسفير السوري في موسكو بشار الجعفري سارع إلى نزع العلم الأسدي عن السفارة، وبعث إلى أحد البرامج العربية في شبكة RT الروسية رسالة يصف فيها نظام الأسد بـ"مافيا الفساد التي عاثت خراباً في البلاد وباعت مقدراتها ودمرت مؤسساتها". ويعتقد البعض أن الجعفري لم يكن ليقدم على ذلك في اليوم التالي لسقوط الأسد، من دون همس السلطات الروسية في أذنه.موقع الخدمة الروسية في صحيفة The Moscow Times نشر في 10 الجاري نصاً عنونه بالقول "صفعة كبيرة لبوتين". فقدان سوريا "يقصي روسيا عن قلب الشرق الأوسط". استهل الموقع نصه بالقول أن بوتين إستقبل في موسكو الزعيم الثاني الذي حاول دعمه بالقوة ضد إرادة شعب هذا الزعيم الفار. وأشار إلى فرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من كييف العام 2014، بعد الثورة عليه لخضوعه لأوامر بوتين. وقال بأن سقوط الأسد في سوريا، قد يحرم روسيا من نفوذها وقاعدتيها العسكريتين في الشرق الأوسط.ذكّر الموقع بزيارة بوتين إلى قاعدة طرطوس البحرية العام 2017، وقوله بأن العسكريين الروس في سوريا يدافعون عن "وطننا، وسيوجهون إلى الإرهابيين ضربات لم يشهدوا مثيلاً لها حتى الآن إذا فكروا بالنهوض مرة أخرى. وبعد 7 سنوات لم يقم العسكريون الروس في سوريا بالدفاع عن "وطننا"، ولا عن الأسد ضد جبهة تحرير الشام المدرجة في لائحة المنظمات الإرهابية في روسيا. كما ذكّر بتصريح لافروف في الدوحة في 7 الجاري، بأن منظمة هيئة تحرير الشام إرهابية، لا يجوز السماح لها بالإستيلاء على أراضٍ في سوريا. لكن وكالتَي تاس ونوفوستي، بدأتا هذا الأسبوع بتسمية هيئة تحرير الشام "المعارضة المسلحة".نقل الموقع عن الدبلوماسي السوفياتي الروسي السابق والباحث حالياً في مركز فيينا لنزع السلاح، Nikolay Sokov، قوله بأن موسكو تفضل أن تتعامل مع أولئك الذين يملكون السلطة، وتشطب من حسابها أولئك الذين يفقدونها. ونقل الباحث عن "غارديان" البريطانية إشارتها إلى أن الأسد حين طلب المساعدة من الكرملين في العام 2014، طلب من مسؤول روسي أن يبلغ الرسالة التالية: "قولوا لبوتين أنني لست يانوكوفيتش، وأنا لا أهرب (من بلدي)".كما نقل الموقع عن المسؤول في معهد واشنطن Aaron Zelin، قوله بأنه ليست لدى روسيا الآن القدرة التي كانت لها في العام 2015 لتدافع عن الاسد، كما في ذلك الحين. وإذا فقدت قاعدتها في طرطوس، ستكون بالنسبة لها "خسارة جسيمة للغاية". فهي المرفأ الوحيد لروسيا في المياه الدافئة، والتي يمكن أن تستخدمها قواتها البحرية، وعبرها تستطيع إستعراض قوتها في المنطقة. وفقدان هذا المرفأ البحري يقصي روسيا عملياً عن قلب الشرق الأوسط.ينقل الموقع عن الباحث في شؤون القوات المسلحة الروسية في مركز Carnegie برلين، Dara Massicot، إفتراضه بأن روسيا تريد الإحتفاظ بقاعدتيها في سوريا عبر المفاوضات إذا تمكنت، مقابل المال، أو المقايضة، أو النفط والغاز، أو مقابل عدد محدود من المرتزقة. لكن السؤال يبقى، ما إذا كان الإئتلاف السوري الذي كانت تقصفه الطائرات الروسية، سيرغب في الحصول على أي شيء من روسيا.يبدو أن روسيا التي اصطدمت برفض الأسد المتكرر الإستماع إلى نصائحها بالإفراج عن العملية السياسية والتفاوض مع المعارضة، كانت تضع في حساباتها إمكانية وصول المعارضة إلى السلطة، أو مشاركتها فيها على الأقل، ومطالبتها بإخلاء قاعدتي حميميم وطرطوس. لذلك كانت منذ زمن تبحث عن بديل للقاعدتين. فقد نشرت صحيفة القوميين الروس المتشددين، SP، في 10 الجاري، نصاً بعنوان "يد موسكو: هل سيتمكن مطار أرض الصومال من الحلول مكان قاعدة حميميم الجوية؟". وأرفقته بآخر ثانوي "القاعدة الجوية في الخارج هي قوة، لكنها في أغلب الأحيان مشكلة، كما حصل في سوريا".ونقلت الصحيفة عن رئيس لجنة الدفاع في البرلمان الروسي (الدوما) قوله بأن القيادة السورية الجديدة التي حلت مكان بشار الأسد بعد فراره، ملزمة "بالنظر على الأقل" في الاتفاق بين روسيا وسوريا بشأن القواعد العسكرية، المبرم في العام 2017 لمدة 49 عامًا.قالت الصحيفة بأنه على الرغم من غياب الأسباب الموضوعية لتقليص الوجود العسكري الروسي في سوريا، إلا أن الحديث يدور حول هذا الموضوع في الصحافة الآن. وأخذ تُطرح على بساط البحث خيارات "الخطة ب" في حال حتمت الظروف إجلاء القاعدتين العسكريتين. وبعدما توقفت الصحيفة عند أهمية قاعدة حميميم للعمليات العسكرية الروسية في إفريقيا، قالت بأن أحد البدائل التي طرحتها الخطة، حتى قبل سقوط الأسد، كان إقامة قاعدة جوية عسكرية روسية في القارة الإفريقية مباشرة. ورأت الصحيفة أنه يمكن لموسكو أن تقيم مثل هذه القاعدة في جمهورية "أرض الصومال" غير المعترف بها، مقابل أن تمنحها موسكو مثل هذا الإعتراف بشرعيتها.