قبل نحو 13 عاماً من الآن اندلعت شرارة الثورة العربية من تونس، وتحديدا من مدينة سيدي بوزيد عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 . بعد مصادرة عربته لبيع الخضار وصفعه من قبل شرطية أمام مقر المجلس المحلي، والتي قالت له (بالفرنسية: Dégage) أي ارحل، ليفجر على إثر ذلك احتجاجات واسعة انتشرت في مختلف المدن التونسية، أدت في المحصلة الى خلع وهروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الذي فر بالطائرة الى العربية السعودية مع زوجته ليلى الطرابلسي، حيث مات هناك.تبع ذلك انتقال الشرارة الى ميدان التحرير في القاهرة، والتي أدت الى سقوط الرئيس حسني مبارك ونظامه .
بعدها قال الرئيس السوري بشار الأسد يومها، ان سوريا تختلف عن باقي الدول العربية. فكان رد فعل أطفال من محافظة درعا، ان كتبوا على جدران احدى المدارس " جاييك الدور يا دكتور". والقصة اثر ذلك معروفة كيف كانت الشرارة السورية مولدة الثورة السلمية المدنية العارمة.
كان بإمكان بشار الأسد يومها، ان يخمد الشرارة والثورة بمهدها، لو انه استجاب فقط لمطالب وجهاء اهل درعا باجراءات تأديبية بسيطة واطلاق سراح المعتقلين الأطفال الذين سحبت اظافرهم تاديبا لاهانة الرئيس.
كان بإمكان طبيب العيون المتدرب، يومها ان يسحب فتيل الاشتعال بابسط الإجراءات. لكنه رضخ من دون تردد لموقف اهل الاجهزة الأمنية الصماء، بالحفاظ على هيبة النظام ورفض التسوية والتنازل او تلبية مطالب أهالي الطلاب. فكانت التظاهرات الخجولة التي تقول وتنادي فقط "حرية حرية". وجاء الجواب عبر قمع تظاهرات اهل درعا، مما ولد غضبا وردة فعل أولى، وثانية وثالثة واشتعالا وتمددا للاحتجاجات، الى مدن أخرى ومن ثم الى محافظات أخرى مجاورة، وثورة احتجاجية سلمية مدنية معروفة الوقائع.
تمكن النظام من جر القوى المدنية الى العمل المسلح وبالتالي الى تبرير القمع والقتل واستخدام السلاح واطلاق النار ومن ثم الى الانتقال الى استخدام المدافع وصولا الى البراميل... والبقية معروفة واحداثها محفوظة.
اختط النظام الامني السوري الطائفي، منذ بداية الاحتجاجات طريق القمع والقتل والبطش، بهدف الارعاب والاخضاع والسيطرة، تمثلا بتجاربه السابقة و وخصوصا تجربة انتفاضة وتمرد مدينة حماه. لكن الشعب السوري البطل والمجاهد، رفض الخضوع وكانت تظاهرات وهتافات العزة : "الشعب السوري ما بينهان، "الشعب السوري ما بينذل"، لكن النظام لم يتردد باستخدام اعنف واقوى الردود العسكرية والأمنية. والبقية من هنا معروفة وصولا الى استدعاء التدخل الإيراني المكلل والمدعم بهمة شباب حزب الله "من اجل ان لا تسبى زينب مرتين"!.
كانت الفرصة لقطع الطريق، على التدهور الشامل وتوسع واندلاع الحريق، بحاجة الى قدر ولو قليل من سعة الصدر والافق وسعة التفكير المتبصر. لكن نظام الهيبة الأمني السوري رفض ادنى أساليب، او خطوات التنازل ولو قيد أنملة.
كانت الفرصة سانحة، للمعالجة ببساطة وسهولة شديدة. لكن فيلسوف نظام البعث وال الأسد، القى خطابا انذاك امام مجلس الشعب السوري شبّه فيه المحتجين يومها بالجراثيم التي تجتاح الجسم الحي عادة، ويجب الاغتسال للتخلص منها.
بكل بساطة تحولت احتجاجات وصرخات المواطنين المقهورين، الى مرادف اسدي لم يطرح او يستنبط قبلا، وتحولوا بنظره الى جراثيم يجب غسلهم والقضاء عليهم والخلاص منهم.
لو ان بشار الأسد ونظامه العائلي الطائفي القبلي المريض المحدود التفكير والادراك، قبل بكلمتي حوار وتسامح، مع أهالي درعا يومها. لاقفلت القضية وعاد كل مواطن الى بيته "ويا دار ما دخلك شر".
لكن الرئيس الصلب ظاهريا والمضطرب الشخصية، والعنيد بكمية من الغباء، الذي رفض التنازل البسيط والقليل لمواطني واطفال درعا، اضطر مرغما وبعد 13 سنة من العناد والقتل والاجرام، وبعد ابشع مقتلة وحشية في التاريخ الحديث، من الفرار تحت جنح الظلام الى موسكو وطلب الحماية والاختباء من غضب شعبه ومواطنيه.
بعد اندلاع وتوسع الثورة وتحولها، إلى منازلة عسكرية إقليمية ودولية عنيفة بكل الألوان والاشكال، اتيحت لنظام البراميل مئة فرصة وفرصة. لكن عمى الألوان والاشكال، حال دون القبول باي حل، او مقترح، ما احال نفسه الى لزوم ما لا يلزم من قبل كل الأطراف، بل عالة على طائفته وعائلته التي تخلت عنه وتركته بعد ان تحولت مكتسباته، ومكتسباتهم الى ركام وغبار لا فائدة منه.
صلافة وعنجهية نظام البعث الفارغة، انعكست في لبنان على القوى الحليفة، التي فرحت بالموقف الصلب والعنيد المفرغ، لحليفها السوري، وراحت تكيل له المديح والدعم والتأليه والتمجيد، مما انعكس على تصرفاتها ومواقفها وطريقة تعاطيها مع كل الاحداث.
عاشت قوى المحور، المدعوم من ايران، نشوة فارغة غير واقعية، واذا كان بشار الأسد قد وصف رؤساء الدول العربية ابان عدوان تموز 2006 ، باشباه الرجال، فان حزب الله انتشى هو الاخر إلى أعلى درجات الانتشاء والنفخ، والتحريض الإيراني القاتل، إلى ان انضم الى جوقة الاحتفال بنصر وهمي، عطل امكانية الرؤية الواقعية، والذي لم يكن سوى عبارة عن كارثة ساهمت بتعطيل امكانية رؤية الحقائق، والنتائج التي خلفها عدوان تموز.
ان مرض الغرور والصلف، الذي سيطر على عقل ورؤية بشار الأسد، تمدد نفسه الى حزب الله في لبنان، والذي تساوى بالغرور مع بشار وراح يهتف ولأقل سبب، كان في مهرجاناته واحتفالاته، بشتم الدول العربية وقادتها والخليجية واحدة تلو اخرى، من دون أن يدرك انه يرمي بنفسه ولبنان في لجة التهلكة والأحقاد المتبادلة.
تطبع نظام الأسد وحليفه حزب الله، على طابع الغرور والنشوة، غير الواقعية. وفيما كان الحزب يعدُ مناصريه بالصلاة قريبا في القدس، وبعبور الحدود إلى احتلال الجليل، كانت إسرائيل تحفر له مع تفوقها التكنولوجي والاستخباري حفرة ما بعدها حفرة.ما حدث لحزب الله في لبنان هو بمثابة تكرار منسوخ لما وقع فيه بشار البراميل.كان بامكان حزب الله تنفيذ القرار الدولي 1701، لو انه تمتع برؤية الحد الادنى من الواقعية، ونظر بعمق الى المصلحة الوطنية والطائفية. لكنه اختار التذاكي والتحايل على القرار الذي رفضت إسرائيل أيضا تطبيقه وعمدت الى خرقه وبهدلته وإفراغه من مضمونه أيضا.
اضطر حزب الله نتيجة الحرب والخسائر الفادحة مرغما على القبول باتفاق ببنود قاسية ومذلة احيانا لتطبيق القرار الدولي الذي اتته الفرصة لتطبيقه سابقا ورفضه رفضا تاما.
مدهشة حالة التماثل بين الحليفين، الاول رفض كل فرص الحل والنجاة له ولسوريا، والثاني اطاح بكل امكانيات الحل والتهدئة في لبنان فساهم في اتاحة الفرصة لاسرائيل ان تحشد الى جانبها اغلب الرأي العام العالمي لضرب وتدمير لبنان وتهجير الطائفة الشيعية والتنكيل بها بشكل اجرامي مقصود.
وصل الغرور الذي انتاب حزب الله، ان صدق ان إسرائيل وامريكا تقفان على "رجل ونصف" خوفا منه ومن صواريخه الإيرانية ، فيما اسرائيل تستمع وتتابع مسؤولي حزب الله في منازلهم ومقراتهم الحزبية وتتابع خططهم واحاديثهم وافكارهم التضخمية المتخيلة، بعد اختراق أجهزة البيجر المصنعة في إسرائيل والمحشوة بأجهزة الرصد والاستماع والمتفجرات .
لقد ساهم مسار الصلف والتكبر الفارغ، في إيصال بشار البراميل الى السقوط المريع والفرار الى صقيع موسكو، فيما كان حزب الله في لبنان يقلده في المنهج والتفكير ويتبع خطاه.
مما لا شك فيه، ان المسار الذي اختطه بشار البراميلي، مع كل الجنون والغباء والتكبر الذي عاشه، قد أوصله الى مصيره الذي وصل اليه، والى ان يسقط هذه السقطة المريعة التي سقط فيها إلى غير رجعة.
يبقى السؤال الذي يبحث عن جواب، وبعد ان "ذاب الثلج وظهر المرج"، هل يسقط حزب الله في حفرة حليفه، واذا ما انتبه وتنبه لخطورة ما هو قادم عليه، وباشر التاقلم والاستفادة من الدروس، هل ستسمح له ايران في التراجع السلس مما هو قادم ومقدم عليه في لبنان؟.