منذ بداية الحرب في اوكرانيا العام 2022، استقر النظام السوري على وصف معارضيه بعبارة "النازيين الجدد" تماهياً مع حليفته روسيا، في تناقض فاقع مع تاريخ نظام الأسد الذي استضاف ضباطاً نازيين فعليين شاركوا في الهولوكوست، وقدموا المساعدة لمؤسس النظام حافظ الاسد في بناء نظام المسالخ البشرية ومعتقلات التعذيب منذ ستينيات القرن الماضي بما في ذلك سجن صيدنايا العسكري، قبيل الانقلاب العسكري الذي أوصله للسلطة.
والنظام الناشئ حينها استفاد من خبرة النازيين الحقيقية لتثبيت قبضته الحديدية على السلطة بشكل تلاحظ نتائجه المخيفة اليوم في صور الناجين من المعتقلات التي زارتها الكاميرات للمرة الأولى على الإطلاق، بعد عقود من الفظائع والانتهاكات التي كانت تتم في الظلام، وبشكل ممنهج، فيما واصل النظام لعقود استخدام الدعاية لإخفاء ممارساته الوحشية بينما استفاد من أساليب قمعية استوردها مباشرة من أحد أكثر العهود دموية في التاريخ الحديث.والحال أن سوريا كملاذ للنازيين بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن عبثياً، إذ قدمت دمشق، في ظل الاضطرابات السياسية والبحث عن أدوات تعزيز السيطرة، مكاناً آمناً لشخصيات مثل آلويس برونر، المساعد المقرب للمسؤول عن ترحيل آلاف اليهود إلى معسكرات الموت، قبل أن يجد طريقه إلى سوريا في خمسينيات القرن الماضي ليس فقط كلاجئ سياسي، بل كمستشار أمني لنظام "البعث" حسبما أوضحت صحيفة "غارديان" البريطانية.وتحت اسم مستعار، عمل برونر مستشاراً ومعلماً لضباط الاستخبارات السورية، مستخدماً خبرته في الاستجواب والتعذيب التي صقلت خلال الحقبة النازية، إلا أن ما قدمه برونر كان أكثر من مجرد نصائح تقنية، حيث ساهم في تطوير أساليب قمع ممنهجة تهدف إلى سحق أي معارضة، وهو الإرث الذي استفاد منه النظام السوري حتى آخر لحظة لوجوده في دمشق، السبت الماضي.ولسنوات عديدة، حاول عملاء كثيرون وأجهزة الشرطة الدولية الوصول إلى النازي المختبئ في دمشق. وبعد أكثر من 12 سنة من التحقيق وجمع المعلومات، ظهرت القصة للعيان. وثبت فعلاً أن حافظ الأسد فاق النازيين بدهائه، حيث سخّر وحشيتهم لمصالحه الشخصية ولمزيد من القمع بحق شعبه نفسه، ما دفع معلقين للقول أن النظام الأسدي تفوق في الإجرام على النظام النازي بسبب هذه الجزئية تحديداً.واستطاع كثير من الضباط النازيين الهروب بعد انتحار هتلر وتحرير برلين على ايدي قوات الحلفاء. لكن أن يتمكن أحدهم من العيش في "عاصمة الصمود والتصدي" لأكثر من 40 عاماً وأن يساهم في بناء أكثر أجهزة المخابرات بشاعة في العالم، فهو المفاجئ ربما لكثيرين في ظل النظام السوري، ويعطي انطباعاً بأن الفترة المقبلة ستكشف مزيداً من المعلومات التي لم يكن أحد يعرف عنها شيئاً. مع الإشارة إلى أن الحديث عن علاقة الأسد بالنازيين ظهرت في وسائل الإعلام العالمية والعربية خلال السنوات الماضية، وبات يلاحظها كثر من السوريين اليوم في مواقع التواصل ويسألون بشأنها في "فايسبوك" و"إكس"، لا يما من كانوا يعيشون في سوريا ضمن تعتيم إعلامي شمل المواقع الإلكترونية التي حجبها النظام، بما في ذلك موقع "المدن".وعاش الضابط النازي برونر في سوريا أربعين عاماً ينعم بحماية حكم الأسد الديكتاتوري. ومقابل حمايته تلك، عقد اتفاقاً مع الأسد منذ الستينيات، بعد سيطرة حزب "البعث" على السلطة العام 1963 حتى وفاته. وولد ألويس العام 1912، وكان من الضباط المسؤولين على معسكرات إبادة كثيرة في أوروبا. وبعد بعد سقوط أدولف هتلر، زعيم النازية في ألمانيا، تمكن من الاندساس بين اللاجئين مستخدماً اسماً مستعاراً عمل بفضله سائقاً لدى الجيش الأميركي. ثم هرب العام 1953، إلى مصر بجواز سفر يحمل اسم جورج فيشر، وبقي في مصر مدة من الزمن قبل أن يتسلل إلى دمشق العام 1954.وفي سوريا، التقى برونر صديقاً يدعى فرانتز رادماخر، وهو ضابط نازي أيضاً شغل منصب رئيس مكتب الشؤون اليهودية في ألمانيا زمن العهد النازي، ووظفه في شركته الخاصة "شركة الشرق للتجارة" (Orient Trading Company). ومن الصعب تتبع حياة برونر خلال العشر سنوات الأولى له في دمشق. لكن الثابت أنه كانت له علاقات مع عبد الحميد السراج، رجل المخابرات الدموي في زمن جمال عبد الناصر، حسبما أفاد الصحافي كلود بالازولي، صاحب كتاب "سوريا: الحلم والقطيعة"، حسبما نقلت وسائل إعلام فرنسية.وفي العام 1961، أدرك الأميركيون، بعد تحقيقات عديدة، أن فيشر المقيم في دمشق هو النازي برونر، وفي العام نفسه تلقى برونر رسالة بريدية مفخخة، في دمشق، فَقَدَ على إثرها إحدى عينيه، وعندها فهم برونر أن أمره انكشف. وكان العام 1966 هو العام المفصلي عندما حدث اللقاء الحقيقي بينه والدولة السورية عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. واشترى حافظ الأسد بسلطته، خدمات الخبير النازي المخضرم الذي قال عنه رئيس جهاز "الغوستابو" أدولف آيخمان، في مذكراته: "إنه من أفضل الرجال"، مقابل تأمين سلامة الضابط النازي في سوريا بعد انكشاف أمره.وعمل برونر كمستشار أمني غير رسمي للأسد في الفترة التي كان حافظ يقضي فيها على المناهضين له سواء من البعثيين أو غيرهم بالتصفيات والاغتيالات. وبعدها بخمس سنوات، استولى حافظ الأسد على السلطة رسمياً بانقلاب عسكري سماه "الحركة التصحيحية" وكان الضابط النازي ممن ساهموا في بناء منظومة الأسد المخابراتية الرهيبة، بما فيها من أجهزة وفروع ومنهاج قمع ومراقبة لا مثيل لها على الكوكب. وكله لهدف واحد، هو حكم البلد وإبقائه في قبضة الديكتاتور الذي رفع شعار "إلى الأبد". وأكد ضابط في المخابرات الفرنسية كانت له علاقات في دمشق في الثمانينيات، أن برونر كان يعمل مستشاراً سياسياً مقرباً لدى الأسد.وبعد موت الأسد الأب، ورث عنه ابنه بشار سلطته التي بناها بالحديد والنار أيضاً، فسار طبيب العيون السابق الذي عاش في ظل الديموقراطية البريطانية ولم يتعلم منها شيئاً، على نهج أبيه بل زاد فيه ظلماً وقمعاً للشعب. وكان الأسدان الأب والابن، ينكران وجود برونر أو معرفتهما بشخص يحمل هذا الاسم، ما أبقى قصته أشبه بأسطورة شفهية بالنسبة للسوريين الذين كانوا يتناقلونها كرواية عن الأشباح، بسبب التعتيم الإعلامي. ولا معلومات محددة عن موت برونر حيث تفيد معلومات متضاربة أنه توفي العام 1992، وفي مصادر أخرى العام 2010 عن عمر ناهز 98 عاماً. وتدور حكايات أنه قضى في أحد أقبية المخابرات، وهي مفارقة مثيرة للسخرية، إن صحّت، بسبب دوره في إنشاء تلك المنظومة.ولطالما استخدم نظام الأسد اتهامات النازية كسلاح سياسي ضد معارضيه وضد القوى الغربية، محاولاً بذلك وضع نفسه كحصن ضد الفاشية التي يمثلها شخصياً في واقع الأمر، علماً أن النازيين الجدد في أوروبا كانوا يزورونه في السنوات الماضية، بما في ذلك نواب من "حزب البديل لأجل ألمانيا". وكانت تلك الادعاءات تستخدم لتبرير حملات قمع وحشية ضد المدنيين، ولتشويه صورة المعارضة السورية على الساحة الدولية برعاية موسكو التي تكرر نفس الأكاذيب بحق المعارضين لها أيضاً.ولا يمكن اليوم إنكار أن التعاون مع برونر وغيره من النازيين، أثّر بشكل مباشر في أساليب التعذيب المستخدمة في سوريا. والتقارير الموثقة من قبل منظمات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية "أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش"، تشير إلى ممارسات تعذيب منهجية في السجون السورية، بما في ذلك سجن تدمر وسجن صيدنايا، تشمل الضرب الوحشي، والعزل المطول، والاعتداء الجنسي، وتهديد المعتقلين بأفراد أسرهم وغيرها.وما يجعل هذه الأساليب أكثر إثارة للرعب هو التشابه الواضح بين ممارسات التعذيب في سجون النظام السوري والأساليب النازية. في سجن تدمر، وثقت الشهادات استخدام العقوبات الجماعية والتعذيب الجسدي الممنهج، وهي أساليب تعيد إلى الأذهان معسكرات الاعتقال النازية. أما في سجن صيدنايا، فكشفت التقارير عن "غرفة المكبس"، وهي مكان مصمم لإعدام العشرات دفعة واحدة باستخدام الضغط المكاني. بالإضافة إلى ذلك، تم توثيق المقابر الجماعية التي تُستخدم للتخلص من الجثث، وأشارت شهادات الناجين إلى استخدام الأحماض الكيماوية لتسريع تآكل الجثث وإخفاء الأدلة.وتشير التقديرات إلى أن عدد الضحايا الذين قتلوا في سجن صيدنايا وحده يتراوح بين 13 ألف و20 ألف معتقل بين العامين 2011 و2015 فقط، ما يعطي لمحة بسيطة عن حجم المأساة وتكشف وحشية النظام في قمعه المستمر، طوال 54 عاماً.وإلى جانب التعذيب الجسدي، استُخدمت أساليب التعذيب النفسي بفعالية لتدمير إرادة المعتقلين، بما في ذلك الحرمان المستمر من النوم، وسماع أصوات تعذيب الآخرين، وخلق بيئة من اليأس والهلع المستمر والتي كانت تهدف ليس فقط للحصول على المعلومات، بل أيضاً كسر الروح الإنسانية بالكامل. ولا يمكن نسيان غرف الملح التي تُوضع فيها الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، الأرجح لإضعافهم جسدياً، فيما يتم أخذهم إلى تلك الغرف من حين إلى آخر ليُفاجأوا بكميات هائلة من الملح الذي دفنت فيه الجثث.إلى ذلك، اعتمد النظام السوري أيضاً على أساليب مشابهة لتلك التي استخدمتها ألمانيا الشرقية (DDR) في كتابة التقارير ضد الأفراد المُشتبه في معارضتهم للنظام. هذه التقارير، التي غالباً ما كانت تُجمع من قبل مواطنين عاديين مثل سائقي سيارات الأجرة وبائعي الطعام الذين أُطلق عليهم لقب "كتبَة التقارير"، كانت تتسم بدقة مذهلة في التفاصيل التي تضمنت معلومات عن أوقات خروج الأشخاص من منازلهم، ونوع سياراتهم، وأرقام لوحاتها، وحتى أصدقائهم وعلاقاتهم وربما لون ثيابهم الداخلية، وهو ما تكشفه تقارير عُثر عليها في مقرات الفروع الأمنية و"حزب البعث" خلال اليومين التاليين لسقوط نظام الأسد.وامتدت الممارسات لتشمل مختلف شرائح المجتمع، من طلاب الجامعات إلى الأساتذة والأطباء. هذه الشبكة الواسعة من الرقابة جعلت من المستحيل تقريباً أن يشعر أي شخص بالأمان، وساهمت في خلق حالة من الهلع الجماعي الذي كان يخدم هدف النظام الرئيسي: ترسيخ الخوف كأداة للسيطرة.ويمكن القول أن التعاون بين نظام الأسد وشخصيات نازية مثل برونر، ليس مجرد فصل مظلم من فصول الماضي، بل هو انعكاس لنمط عالمي من الإفلات من العقاب. أن يعيش مجرم حرب، مثل برونر، بشكل مريح لعقود، تحت حماية النظام السوري من دون أي مساءلة، يكشف عن ضعف الإرادة الدولية لمحاسبة الأنظمة الاستبدادية، وهو أمر يجب ألا يتكرر في الحالة السورية حيث ما زال عشرات رجالات النظام مختفين ولا يعرف مكانهم، وربما هربوا إلى دول أخرى، تخت أسماء وهمية مثلاً، وهم الذين امتلكوا القدرة على تزوير أوراق رسمية، ما قد يجعل قصة برونر تتكرر في دولة ما في المستقبل.واليوم تبدو الحاجة ملحّة ومهمة لتسليط الضوء على هذه الحقائق، ليس فقط لفهم مدى تعقيد وحشية النظام السوري، بل أيضاً لفهم كيفية تطور الأنظمة الاستبدادية في ظل غياب المحاسبة، لأن الكشف عن هذه التحالفات المظلمة يمكن أن يساعد في تعزيز حملات المطالبة بالعدالة للضحايا، ومن ناحية أخرى يجب أن يُستخدم هذا التاريخ لدعم الجهود الدولية لتوثيق ومحاسبة انتهاكات حقوق الإنسان.