صدر كتاب "معتقلون ومغيبون" في عام هروب الأسد عن دار رياض الريس، وبإشراف سنا يازجي، مؤسِّسة منصة ذاكرة إبداعية للثورة السورية. ويشكّل وثيقة اتهامية مفصلية في تاريخ الثورة السورية، مجسدًا لحظة فارقة في سرديتها. يتجاوز كونه مجرد توثيق سردي للأحداث ليصبح شهادة اتهام شاملة، تسلط الضوء على معاناة الثورة السورية وآلام فاعليها وضحاياها، من فنانين، ونخب فكرية، ومفكرين، إلى أفراد تحوّلوا إلى أرقام تختزل قصصًا مأسوية. يكشف الكتاب عن الألم الفردي بوصفه جزءًا من الوعي الجمعي، حيث تُنسج قصص الأفراد في سياق أوسع يعكس التحولات السياسية العنيفة والأزمات النفسية العميقة التي رافقت تلك المرحلة. لا يكتفي الكتاب بالتوثيق، بل من خلال عشرة فصول متتالية، يُفعّل ذاكرة بصرية قهرية، من خلال تحويل معاناة السوريين اليومية إلى سردية جمالية تعكس صدمة الإخفاء والاعتقال والتعذيب. يُقدّم تحليلًا للأحداث الكبرى في الثورة السورية ولطبقات العنف التي مارسها النظام، بدءًا من اعتقال الأفراد وإخفائهم وصولًا إلى مرحلة الكيماوي، حيث يظهر المحو النفسي كآلية قهر تُستهدف بها ذاكرة السوريين الجمعية. يربط الكتاب بين الألم الشخصي والمقاومة الجمعية، في محاولة لتفكيك محاولات النظام لـتثبيت القهر عبر تغييب الأفراد وقمع الجماعات.يتطرق الكتاب إلى دور الأفراد والمجتمع في مواجهة هذه الفظائع، مستعرضًا جهود المصور الفوتوغرافي "قيصر"، الذي كشف للعالم آلاف الصور لمعتقلين قضوا تحت التعذيب، وجعل معاناتهم مرئية للعالم بأسره. ويتعمق في تحليل سجن صيدنايا، المعروف بـ"المسلخ البشري"، كمكان يُجسد العنف المنهجي، حيث تتحول المحاكمات الهزلية إلى أحكام إعدام مروعة..من خلال الفصول المرتبة زمنيًا، يُقدّم الكتاب ذاكرة مرئية مقاومة، تتداخل فيها الصور واللوحات والأحداث لتروي تراجيديا حزينة لا تنتهي. يستدعي الجرح الأول المرتبط بغياب الأحبة واختفائهم، حيث يتحول هؤلاء إلى أطياف تحضر في الأعمال الفنية وتقارير المنظمات الدولية. هذا الجرح، الذي لا يندمل، يُرسّخ حدادًا معلقًا يربط الماضي بالحاضر، ويُبرز التشظي النفسي السوري بوصفه نتيجة قسرية للاختفاء والتغييب.الكتاب في جوهره شهادة حيّة، توثق تجربة إنسانية وفنية مقاومة، حيث تتجلى أنطولوجيا الغياب كحالة وجودية تعكس التلاشي الجسدي والحضور الرمزي للمغيبين. إنه دعوة لفهم أعمق للجرح السوري، حيث يتحول القمع إلى فن توثيقي، والمأساة إلى سرد بصري يخلّد الذاكرة السورية. ويقدّم دراسات معمقة تسلط الضوء على حالة الاعتقال، متناولًا فلسفتها، تفكيك تقنياتها، وآثارها النفسية والاجتماعية. يركز أيضًا على الحالة المجتمعية التي واكبت هذه الظاهرة، مسجلًا التحركات النبيلة التي حاولت بعض النخب السياسية والاجتماعية تفعيلها للتصدي لها. لكنه يعرض أيضًا الإغفال الذي حدث بالتزامن مع اعتقال النظام لآلاف الأشخاص، في محاولة لدمج فكرة الاعتقال مع خطاب "تطهير الذاكرة" كأداة للسيطرة وإعادة تشكيل الهوية المجتمعية.يوضح الكتاب البُعد الجمالي الذي يتجلّى في صراع السلطة مع الإبداع الفني. يتنقل بين الأرشفة والتوثيق الفني وصولًا إلى اللحظات الجمالية التي يمكن وضعها في سياق ولادة أنطولوجيا المقاومة. تعيد هذه الأنطولوجيا صياغة وجود الفرد من مجرد ضحية إلى صانع للأثر وفاعل ثقافي. يُلتقط من خلاله الصور الناطقة التي تحمل معاني عميقة وتروي قصصًا تتجاوز الكلمات. ومن أبرز هذه اللحظات، استخدام جريدة البعث التابعة للنظام كرمز للتحوير، حيث تم تشويه خطوطها السود المائلة وكتابة مصطلحات الثورة السورية فوقها، في إعادة توظيف رمزي يعكس انتصار المعنى الإبداعي على أدوات السلطة الدعائية. بهذا، يصبح الكتاب وثيقة جمالية وسياسية تعيد تعريف العلاقة بين الفن والسلطة والمقاومة. يستمد بُعده الجمالي من التوثيق الحي لما جرى خلال 13 عامًا من الثورة السورية، مستندًا إلى بُعد أنطولوجي يبدأ من تصوير الجدران التي كُتب عليها "ارحل يا بشار"، حيث يمكن اعتبار هذه الكتابات نقطة انطلاق لفن بدائي يعبر عن مقاومة شعبية عفوية. هذا التعبير الأولي يتطور تدريجيًا ليشمل نماذج أكثر تعقيدًا من الناحية الفنية، تتحوّل من محاكاة مباشرة للثورة إلى أعمال توثيقية ترصد حراك الفنانين وتجاربهم، بما في ذلك اعتقالهم وغيابهم القسري.
يتناول الكتاب الذاكرة المتجذرة، التي تبدأ من التقاط الواقع الخارجي وتحويله إلى شهادة حية. يوضح كيف صُور الخارج كواقع وفن وحدث، مما جعله يعكس الوعي الجماعي بالثورة السورية بوصفه سردية مستمرة ومتعدّدة الأبعاد. ويركز على التوثيق الرقمي الدقيق، الذي يُبرز البُعد المكاني والزماني للثورة، في ظل سياق من الاعتقالات المستمرة والغيابات والمنشورات والمذابح المنظمة. يسعى إلى رسم صورة شاملة لكل عام من أعوام الثورة، التي كانت سنوات من الألم والانتهاكات، لكنها أيضًا سنوات من الإبداع والمقاومة، حيث يعمل النظام على محاولة ضبطها ضمن سياق مقتلة سورية مُمَنهَجة.يستذكر الكتاب مرحلة الكيماوي، التي كانت من أكثر مراحل عنف النظام تجذرًا ووحشية. يستعرض بيانات السياسة الأكثر كثافة، التي حاولت خلالها المعارضة التماس عطف الدول ودفعها نحو التدخل، في الوقت الذي بدأت فيه تتبلور المبادرات الوطنية والاجتماعية والسياسية كمحاولات للرد على بطش النظام، مع تسليط الضوء على أبرز الشخصيات التي اختفت وتلاشت تحت وطأة القمع. يبرز مراحل قيام النظام باختزال الإنسان السوري إلى مجرد رقم أو غياب، محاولًا تفكيك هذه الاستراتيجية القمعية من خلال توثيق حيّ وشامل.الكتاب يعمل على آلية المحو النفسي، التي تظهر في تفاصيل الحياة اليومية للسوريين، محولًا هذا المحو النفسي إلى وجود توثيقي ينبض بالحياة. يُبرز استجابات اجتماعية لقلق وجودي اجتماعي، حيث تتشكل أبعاد جديدة للإنسان السوري وهو يختفي. من خلال هذا التوثيق، نُدرك تمامًا كيف تتجلى أنطولوجيا الخفاء مع الأحداث الكبرى: من محو الكيماوي إلى اعتقال الفرد، ومن ضرب الجماعة إلى خطف الفرد.يرصد الكتاب مأساة استخدام الكيماوي والتدخل الروسي في سوريا، موثقًا التجذرات السياسية التي حاولت من خلالها القوى السورية إبقاء مأساة شعبها في صدارة الوعي العالمي. كما يُبرز قدرة الفنانين على ممارسة المقاومة في مواجهة القمع المتصاعد. وسط هذا المشهد، استحوذت الطائرات على السماء السورية، لتقصف بنى الثورة وتقضي على الحلم السوري بشكل منهجي، في وقت ضعف فيه النظام وأُنهك الشعب بفعل ممارسات القوى الإسلامية.هنا، في كل لوحة وصورة وبيان، تتزايد الجماليات التراجيدية، حيث تتجلى ماهية التراجيديا التي يختلط فيها الحزن العميق والمعاناة الإنسانية مع فن الصدمة البصرية، الذي يعكس تعبًا مرهقًا ناجمًا عن استسلام المجتمع وتهالكه أمام الآلام الكبيرة التي يحتملها. تطفو على البنية الفنية التعبيرات الجريحة، التي تتسم بعمقها التأملي والإنساني.ترصد تلك المرحلة تغير السيميائية البصرية التي تعبّر عن ثبات الجسد السوري رغم التفسخ، وعن النضال تحت القصف من خلال الصور والمظاهرات التي واجهت كل محاولات القمع ورفضت الاستسلام. يُظهر الكتاب كيف تحولت هذه الإبداعات إلى وثائق جمالية وإنسانية تعكس صمود المجتمع السوري رغم محاولات القضاء على روحه.
من الحائط كمنصة مجتمعية، حيث وُلد الفن الأول عبر الخطوط المعوجة للأيدي المتسارعة لإسقاط النظام على الجدران والشوارع، يتابع الكتاب مئات الصور التي وثّقت الكتابات السريعة للرموز والشعارات في الأحداث. ينتقل من هذه البداية العفوية إلى التوثيق الورقي للثورة، بما يشمل المعتقلين، المغيبين، والمقتولين، ليُرصد بذلك معالم الحراك السوري الأولى، ليشمل أكثر من خمسة عشر نوعًا فنّيًا مرصودًا، جنبًا إلى جنب مع آلاف الوثائق التي تجاورت مع العمل المجتمعي والسياسي والفني.كما يتتبع الكتاب كل فعل فني استطاع التقاط البعد الإنساني والسياسي للثورة، بدءًا من نشاط الفنانين إلى بروز الفنون السورية التي واكبت الحدث بجرأة وإبداع. ويُبرز تطورات الفن الحديث السوري، متناولًا استلهام التجارب القاسية من سجن صيدنايا، أحد أكثر السجون قسوة، وصولًا إلى تصوير المعتقلات وصور المعتقلين، ما جعل هذا الحديث السوري المؤلم متجسدًا في أعمال فنية وثّقها الكتاب بقوة ودقة.ما لا يبدو في سوريا مكاناً، يجعل الكتاب منه مكاناً ممكناً، عبر آلاف الصور واللوحات والمنحوتات والخطوط التي قُتل وغيب أصحابها، كما يرصد الفنانين الذين جسّدوا سوريا خارجها. ولم تقتصر الأعمال على اللوحات والصور الفوتوغرافية، بل شملت الكاريكاتير والفنون البصرية والمنحوتات، التي عادت لتُعبر عن زمن حديث سوري بعد انقطاع طويل عن أي تغيّر إبداعي خلال سنوات حكم الأسد ما قبل الثورة. "معتقلون ومغيبون" يشكّل تأريخًا أرشيفيًا جليلًا لكل ما هو سوري، من فن وأحداث. يجعله هذا عملاً تحفويًا للأجيال السورية القادمة، ليعرفوا كيف امتزج جلال الفن مع بشاعة الحدث وقسوته. ويُعد أرشيفًا حيًا لآلاف الأشخاص الذين تحوّلوا إلى أرقام، موثقًا كيف انعكس الرقم في الإبداع الفني. ويُكرّم الكتاب العديد من الشخصيات التي ألهمت السوريين والسوريات لمواصلة فعل الحرية، ليبقى شهادة تاريخية وإنسانية راسخة.