قد يبدو منطقيًا وضروريًا جدًا طرح سؤال اليوم التالي عقب حدث عظيم وحاسم وتاريخي هو تداعي نظام حكم كنظام الأسد، وما كان يمثلّه من مدماك أساس في العمود الفقري للنظام الرسمي العربي السائد منذ قرون، وفي هذه اللحظات الحاسمة من عمر المنطقة على وجه الخصوص. إلا أن السؤال قد يبدو أكثر منطقية إن قام بطرحه من يتموضع خارج الحالة السورية بمجملها، كنحن في لبنان على سبيل المثال، أي أن يطرحه من يعيش خارج الدوامة الثورية السورية التي تم استكمالها في الأيام السابقة، ووصلت إلى خواتيمها في الثامن من كانون أول 2024.
لكن التدرّج بالنظر إلى المسألة يكشف أمرًا مختلفًا إلى حد ما، خصوصًا عندما نأخذ بعين الاعتبار المعاناة التي خاضها الشعب السوري في ظل نظام حكم عائلي أوليغارشي، لم تمارس تلك العائلة الحاكمة فيه، خلال مجمل سيطرتها على الدولة، وعلى المجتمع، إلا الفاشية والبوليسية والكيدية والاجرامية... الخ. من هنا يصبح السؤال الأكثر منطقية اليوم هو: كيف يمكن المسارعة والذهاب باتجاه الطروحات المنطقية، والتفكير بالمستقبل بعقلانية، وبعقل بارد، على شعب عانى كل ما عاناه من تسلط ومن قتل وتهجير وتنكيل واعتقال وغارات وبراميل منذ بداية الثورة إلى اليوم؟ هذا دون اغفال ما عاناه الشعب نفسه منذ ما قبل الثورة كذلك، أي منذ عقود كان يعزّز النظام السابق فيها وجوده وهيمنته بالحديد والنار على أجساد وآمال السوريين الفرحين اليوم؟السؤال المتسرعفالسؤال عن اليوم التالي، من هذه الناحية، يبدو متسرعًا بعض الشيء، لأن الشعب السوري لم يعمل بعد على تضميد جراحاته، كما أنه لم يعمل على دفن شهدائه، ومداواة معتقليه، وجمع شمل عائلاته، وعودة مهجريه. وصولًا إلى كل الكلام الذي نسمعه، والفيديوهات التي نشاهدها، عن عدم القدرة على اكتشاف السجون والزنازين والسراديب التي تشكّل المعتقل الكوني الأبرز في القرن الواحد والعشرين، وما يرافقها من قلق وتوتّر ناتج عن عبث البحث المستمر لكشف مصير مفقودين ومعتقلين تصل أعدادهم إلى ما لا يمكن لعاقل أن يتخيله في عالم اليوم.
لذلك كله، يبدو أن أكثر ما يحتاجه الشعب السوري اليوم هو الكثير من التفهّم والتسامح في هذه الفسحة المستحقة التي يحتاجها لاستعادة أنفاسه قبل التفكير بعقل بارد، وقبل التفكير بكل ما يمكن أن يكون الحال عليه في الحاضر وفي اللحظات القادمة من مستقبل سوريا، وفي مسار إعادة بلورة اجتماع سياسي، ودولة، وانتظام سياسي جديد. أما كل الكلام عن التفكير بأسئلة اليوم التالي التي قفزت في وجه هذا الشعب منذ اليوم الأول لهروب الأسد، وبهذه الكثافة، ورفع كل الأزمات المستعصية والمستفحلة والمتراكمة منذ عقود، لا يمكن التفكير بها إلا بوصفها رفعًا لكل أنواع الاستحالات التي لا علاج واقعي لها في هذه اللحظات، أمام شعب واجه باللحم الحي ليصل إلى بر أمان نسبي في رحلته التي تبغي بالأساس إزالة الانسداد والعقبات أمام التفكير بعقلانية واستعادة بعض الثقة بين مكوناته للتحاور والتشاور في شؤونهم المستقبلية.مشروع الثورة المضادةوطلب المستحيل هو في حد ذاته سلوك تعتمده الأنظمة، أو بقاياها، مع شعوبها، عندما تريد المسارعة إلى طرح هذا النوع من الأسئلة على المنتفضين لتبرير كل إمكانيات البقاء وسد الطريق أمام عملية التغيير. فهي تعلم جيدًا أن مثل هذا الطلب، وأن مثل هذا النوع من الأسئلة، لا إمكانية للإجابة عليها في ظل المعطيات الراهنة. بل تعلم أن هذا النوع من الأسئلة كان من المفترض أن تطرحه على نفسها أولًا، قبل أن تطرحه على أي بديل. فهي الممسكة بزمام السلطة، وهي التي يفترض أن تبادر، وهي التي ترعرعت ونشأت المشكلات في عهدها وزمانها. بما يوحي وكأن السؤال عن البديل، سؤال اليوم التالي، بمثابة مصيدة سياسية تستغلها الأنظمة، والثورات المضادة، لاستغلال تراكم الأخطاء في جسد من هو ضدها. وعلى المنوال ذاته، قد يبدو السؤال اليوم مسارعة لاستكمال جميع أنواع الاستحالات، بقصد أو من دون قصد، كنوع من المعيقات التي نعلم جيدًا أن الإجابات عليها لا يمكن أن تُستكمل اليوم لغياب كافة شروط الوضوح، وبالتالي لفتح الطريق أمام تكريس مشروع الثورة المضادة، إن كان لهذه الثورة المضادة أي إمكانية.
فاليوم هو يوم فسحة وراحة ومحاولة اختتام الحزن وبداية تلقّف الفرح والأمل، وهو أقل ما يستحقه هذا الشعب العظيم في تضحياته وفي إمكانياته، بعد كل ما أنجزه. فكيف يمكن أن نطلب ممن لم يزر سوريا منذ سنوات، أو ممن خرجوا من غياهب السجون والأنفاق، ومن المعتقلين، ومن عانى كل أنواع الارتياب على مدى سنوات وسنوات، وممن لم يدفنوا شهدائهم بعد أو لم يجدوا جثثهم، أو كيف يمكن أن نطلب من شعب لم يصل حتى الساعة إلى لحظة تحرير معتقليه وكشف مصيرهم، أن يفكروا بعقل بارد وبمنطق سليم؟