لم يعد خافياً منذ سنوات، أن سوريا باتت واحدة من أهم ساحات التنافس والتدافع التركي-الإيراني المتصاعد خلال العقد الأخير، والذي يمتد من أذربيجان إلى سوريا مروراً بالعراق.
راهنت إيران منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية ضد بشار الأسد، على استدامة حكم الأخير ليكون ضامناً لمصالحها، بالمقابل انحازت تركيا لخيار الشعب السوري وتبنت لفترات طويلة تمتد من 2012 حتى 2017 مطلبه المتمثل برحيل الأسد، قبل أن تخفضه لصالح التركيز على مكافحة الإرهاب، واكتفت بدعم الانتقال السياسي في سوريا، مع احتضان المعارضة الرسمية السورية ممثلة بالائتلاف السوري المعارض وهيئة التفاوض المنبثقة عنه.
تداعيات سقوط الأسد على نفوذ إيران
ليس من المبالغة القول إن سقوط الأسد واستيلاء المعارضة ممثلة بإدارة العمليات المشتركة على الحكم الانتقالي، يفوق بالتأثير مقتل حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني السابق، لأن الساحة السورية هي من أتاحت لطهران أصلاً تقوية الحزب، وهي كانت تأمل إطلاق عملية لإعادة هيكلته مستفيدة من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الحزب وإسرائيل الشهر الماضي، لكن مع خسارتها لدور الأسد في سوريا، أصبحت هذه الخطط في مهب الريح.
استثمرت إيران طويلاً عسكرياً ومالياً في تأمين طريقها البري إلى البحر المتوسط، وسوريا هي الحلقة الأهم فيه نظراً لامتلاكها موانئ على المتوسط، كما حاولت إيران بشكل حثيث خلال السنوات الماضية إعطاء دفعة قوية لمشروع الربط السككي الذي ينطلق من إيران مروراً بالعراق ويصل إلى سوريا، ليسهّل نقل البضائع الإيرانية باتجاه أوروبا عبر البحر، وهي بهذا سعت لمزاحمة مشروع طريق التنمية الذي تبنته تركيا وقطر والإمارات لربط الخليج بأوروبا عبر تركيا، ومن البديهي أن المشروع الإيراني بات معطلاً إلى أجل غير مسمى مع سقوط الأسد.
فشل إيران بمنع سقوط الأسد أرسل رسائل سلبية إلى كلاً من جماعة الحوثي وقوى الإطار التنسيقي في العراق، وتشير المعطيات إلى أن الطرفين يراجعان خياراتهما خشية تعاطي إيران السلبي مع أي محاولة لاستهدافهما على غرار ما حصل مع حزب الله والأسد، وبالتالي فإن النفوذ الإيراني المستقبلي في العراق واليمن بات محل شك.
مكاسب تركيا
قبل أيام فقط من العمليات العسكرية التي أطلقتها المعارضة السورية نهاية نوفمبر الفائت ضد الأسد، وأفضت إلى سقوطه في أقل من أسبوعين، انتقد وزير الخارجية التركية هاكان فيدان الدور الإيراني السلبي وعرقلة التوصل إلى تفاهمات بين أنقرة ودمشق.
وساد اعتقاد في الأوساط الرسمية التركية خلال السنوات الأخيرة أن طهران دفعت الأسد للتمسك بمطلب انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، قبل الحديث عن أي اتفاق يمهد للتعاون على مكافحة الإرهاب (تنظيم قسد المؤلف غالبه من تشكيل كردي تتهمه تركيا بالتبعية لحزب العمال الكردستاني)، وفي الحقيقة فإن النهج الإيراني يعكس المخاوف من أن تؤدي عملية التطبيع لزيادة النفوذ التركي في سوريا عموماً.
وتشير المعلومات إلى أن الحرس الثوري الإيراني دعم خلال السنوات الأخيرة قوات الدفاع الذاتي في عفرين، وهو تشكيل مرتبط بحزب العمال الكردستاني، وكان يسيطر على تل رفعت ومحيطها شمال حلب على مقربة من الحدود التركية، وقد اضطرت هذه القوات للانسحاب من المنطقة الحدودية في ظل العمليات العسكرية للجيش الوطني السوري المدعوم من أنقرة، والتي أتيحت نتيجة انحسار سيطرة قوات النظام من حلب قبل سقوط النظام بقرابة أسبوع.
مع غياب العرقلة الإيرانية لتوسيع الدور التركي، والتي كانت تتم بالاستناد للارتباط الكبير بين طهران والأسد، تتطلع أنقرة لتكون فاعلة في رعاية الحل السياسي الذي سيفضي إلى حكومة مستقبلية تدير البلاد، بالإضافة إلى ضمان المشاركة الواسعة للشركات التركية في إعادة الإعمار الذي سيحظى باهتمام دولي بعد بلورة المرحلة الانتقالية، وهذا سيترتب عليه أيضاً المزيد من النفوذ السياسي مستقبلاً.
مع انهيار قوات النظام وسيطرة المعارضة السورية على كامل البلاد، أصبح لدى تركيا خيارات إضافية على مستوى الطرق التجارية التي ستسهل وصول البضائع التركية إلى الخليج مروراً بسوريا والأردن، وإلى أوروبا من خلال البحر المتوسط، شريطة أن يعود الاستقرار إلى سوريا أولاً.
لا شكل أن طهران ستختبر مستقبلاً إمكانية التواصل مع الأطراف السورية الفاعلة حالياً من أجل ضمان مصالحها، وستحتاج في هذا السياق إلى وساطة تركية، وغالبا هذا سيقابله مطالب تركيا بتعديل أكبر لسلوك طهران خاصة فيما يتعلق بوقف الدعم الإيراني لحزب العمال الكردستاني الذي ينشط شمال العراق على مقربة من الحدود التركية، بالإضافة لعدم عرقلة المصالح الأمنية والاقتصادية التركية في العراق أيضاً.