يحار المرء في وصف وجوه آلاف السوريين الذين احتشدوا مساء أمس في ساحة الجمهورية في باريس، والدموع المحتقنة في عيون غالبيتهم. هل هي دموع الفرح لسقوط النظام، ونهاية القهر الذي عاشته سوريا منذ أكثر من نصف قرن؟ أم هي دموع الألم المزمن والمديد منذ ابتلاء سوريا بأشد الأنظمة الدكتاتورية فتكاً بشعوبها؟ بكلا الحالتين كانت التظاهرة أشبه بعرس "خلاصي" لإزاحة عائلة الأسد عن صدورهم. لكن الحيرة من سرعة سقوط النظام كانت واضحة على وجوههم. ملامح تدل على أنهم لا يزالون في مرحلة تلقي الصدمة، ولم يصدقوا أن ما حصل أصبح ممكناً: سقوط نظام "الأسد إلى الأبد".
المحكمة الجنائيةبدا المتظاهرون لوهلة أنهم ينضوون في تظاهرة سلمية ضد النظام القائم. كانوا يرددون شعارات الثورة السورية "الشعب يريد اسقاط النظام" و"يلعن روحك يا أسد"... يرددونها كأنهم في التظاهرات الأولى للثورة السوريا التي انطلقت في درعا أو في الرقة أو في الحميدية وغيرها من المدن السورية. ولولا الهتافات الجديدة التي تحاكي سقوط النظام وفرار بشار الأسد، والدعوة لجلبه إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكان بالإمكان القول إنهم فعلاً لم يصدقوا أن بشار رحل إلى الأبد. فقد صدحوا بأعلى صوتهم: "يلله تعا جاي، بشار ع لاهاي"، مطالبين بمحاكمته في محكمة العدل الدولية على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري. رددوا هذا الهتاف مرات عدّة، لتأكيد أن ما كان مستحيلاً في سوريا بات ممكناً.تتصاعد أصوات الهتافات في تلك الساحة، التي يتوسطها تمثال "الحرية، والمساواة والأخاء": "ما في للأبد، ما في للأبد، عاشت سوريا وسقط الأسد". هتاف بحت به حناجر هؤلاء المحتشدين في الساحة. هتفوا مرات ومرات، متراقصين ومتطايرين في الهواء بأياديهم الممدودة نحو السماء. بدوا كأنهم يحاولون اقناع أنفسهم أنهم تخلصوا "من الأبد"، بشار وريث والده حافظ الأسد.ليسوا في حلمكان من الصعب عليهم تصديق سقوط النظام بهذه السرعة. غمروا بعضهم،تبادلوا عبارات التهاني بسقوط النظام الذي شردهم في كل أصقاع العالم. يهزون أكتاف بعضهم للتأكد من أنهم ليسوا في حلم.مضى على العديد منهم أكثر من عشر سنوات في منفاهم الباريسي. انتظروا هذه اللحظة، رغم أنهم فقدوا الأمل بزوال هذا النظام. وكان من الصعب عليهم تصديق فكرة انهياره في غضون أيام معدودة. يقول أحدهم: "ما معقول كيف سقط بهذه السرعة". يوقظه صديقه قائلاً: "لم يكن السقوط سريعاً. مضى على معاناتنا أكثر من خمسين سنة".الطقس الماطر لم يمنع الآلاف منهم من الاحتشاد في تلك الساحة والبقاء حتى ساعات الليل المتأخرة. وكانوا بين الفينة والأخرى يرددون أسماء المدن السورية ويصرخون بأعلى صوتهم: "حرة، حرة". أرادوا التأكيد بأن نظام بشار الأسد سقط في كل المدن السورية، وباتت مدنهم وقراهم محررة من نظام البعث. أما سؤال اليوم التالي سورياً فلم يكن حاضراً إلا كهتاف: "واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد"، الذي أرادوا منه التأكيد على وحدتهم. غير ذلك كانت التظاهرة مخصصة للاحتفال بسقوط الأسد، كأهم محطة في تاريخهم المعاصر. تجنبوا طرح أسئلة تعكر فرحتهم بالسقوط المدوّي، الذي لم يكن يخطر ببالهم ولا حتى في الأحلام.