صبيحة اليوم الإثنين، كان ثمّة تفاؤل -مصحوب بالحذر والتريّث- يعم معظم إدارات المصارف اللبنانيّة، إزاء الأحداث الأخيرة التي شهدتها العاصمة السوريّة دمشق، والتي أفضت إلى الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشّار الأسد. لا يحتاج المرء إلى كثير من الشرح لتبيان اتصال السوقين الماليين في لبنان وسوريا، ولو عبر قنوات السوق الموازية، بعدما أرخت العقوبات الغربيّة بثقلها على تداولات النظامين الماليين الرسميين. ولا يحتاج المرء أيضًا إلى كثير من الشرح للدلالة على مصلحة المصارف اللبنانيّة في تخطّي تلك المرحلة، واستعادة العلاقة مع النظام المالي في دمشق، أو على الأقل تسهيل العلاقة مع الأفراد السوريين المقيمين في بلدهم.أسباب تفاؤل إدارات المصارف اللبنانيّةتعدّد مصادر مصرفيّة لبنانيّة عدّة ما تراه أسبابًا للتفاؤل بطي مرحلة النظام السابق، حيث يرتبط الجزء الأكبر من هذا التحليل بمستقبل العقوبات المفروضة على سوريا. مع الإشارة إلى أنّ هذه العقوبات لطالما اتّصلت بوجود النظام السوري ورئيسه، وانسداد أفق الحلول السياسيّة.
بهذا الشكل، ترى المصارف اللبنانيّة اليوم أنّ سقوط دمشق سيعني تلقائيًا تحريك المياه الراكدة في العمليّة السياسيّة، وصولًا إلى مراجعة طبيعة العقوبات الغربيّة المفروضة على سوريا على المدى المتوسّط. وبطبيعة الحال، تدرك المصادر أنّ الكثير من التطوّرات سترتبط بنوعيّة المسارات السياسيّة التي ستفتحها الأحداث الراهنة، غير أنّ الأكيد هو أنّ الجمود الذي طغى على المشهد سابقًا قد انكسر.
مصالح النظام المصرفي اللبناني هنا تتصل أوّلًا بالمصارف أو الكيانات السوريّة الشقيقة، أو ما يُعرف هناك بـ "المصارف اللبنانيّة في سوريا". والحديث عن هذه المسألة يتّصل بحساسيّة خاصّة، إذ أنّ المصارف اللبنانيّة لجأت منذ بدايات الحرب السوريّة إلى فصل ميزانيّات وسيولة وإدارة هذه الكيانات عن المصارف اللبنانيّة الأم. بل وقامت المصارف اللبنانيّة بقطع العلاقة الماليّة المباشرة مع هذه الكيانات في سوريا، لتفادي التورّط في أي انتهاك للعقوبات الغربيّة. وباتت الكيانات السوريّة تعمل منذ ذلك الوقت كمؤسّسات مستقلّة تمامًا، بدل أن تستفيد من علاقتها بالمؤسسات المصرفيّة اللبنانيّة الأم في خدماتها المصرفيّة.
معالجة أزمة العقوبات المفروضة على النظام المالي السوري ستمكّن القطاع المصرفي اللبناني من استعادة علاقته بالكيانات التي تتبع له في سوريا، وهو ما سيعني ولوج المصارف اللبنانيّة ماليًا إلى السوق السوريّة، وربط كياناتها بالسوق اللبنانيّة. وبالإضافة إلى ذلك، سيسمح هذا التطوّر بإعادة ربط ميزانيّات الكيانات السوريّة بميزانيّة المصارف الأم في لبنان، وهو ما سيعكس قيمة حقوق ملكيّة الكيانات السوريّة في موجودات المصارف اللبنانيّة.
وهذا الربط، يمكن أن يغيّر كثيرًا في ملاءة ميزانيّات المصارف اللبنانيّة. التطوران سيغيّران جذريًا طبيعة العلاقة المصرفيّة بين النظامين المصرفيين السوري واللبناني، وهو ما سينعكس على نوعيّة الخدمات المصرفيّة التي سيتم تقديمها في لبنان وسوريا على حدٍ سواء.تداعيات على الاقتصاد اللبناني تتحدّث مصادر إداريّة في أحد أكبر المصارف اللبنانيّة عن تداعيات تطوّر من هذا النوع على الاقتصاد اللبناني نفسه. إذ سيستعيد المصدرون اللبنانيون القدرة على فتح اعتمادات مباشرة عند التعامل مع المورّدين السوريين، والعكس صحيح. بل وسيستعيد التجّار -عبر ضفّتي الحدود- القدرة على إجراء التحويلات المباشرة، بما فيها تلك المقوّمة بالدولار الأميركي.
وهذا ما سيخفّف بدوره من درجة تفشّي تداولات النقد الورقي، التي تجري عبر السوق الموازية، المتداخلة بين سوقي شتورة ودمشق. مع العلم أنّ هذه التداولات النقديّة لا تقتصر حاليًا على عمليّات الصيرفة، بل تشمل أيضًا عمليّات التحويل من خارج النظام المالي الرسمي. وعند تحقيق هذا الهدف، لن تقتصر علاقة المصارف اللبنانيّة بسوريا على الكيانات المملوكة منها، بل ستشمل سائر المصارف السوريّة أيضًا.
الجانب الآخر الذي تنتظره المصارف اللبنانيّة، هو تسهيل العلاقة مع العملاء السوريين. ففي الوقت الراهن، وبسبب العقوبات المفروضة على سوريا، تمتنع المصارف اللبنانيّة عن فتح حسابات للسوريين المقيمين في بلادهم، أو حتّى للسوريين المغتربين إذا لم يثبتوا وجود مصدر دخل من خارج سوريا.
لن يكون بإمكان المصارف اللبنانيّة الرهان على استقطاب أي ودائع من السوق السوريّة كما كان الحال قبل فرض العقوبات، بسبب الأزمة المصرفيّة الراهنة. غير أنّ المصارف اللبنانيّة يمكن أن تراهن على ذلك بعد عبورها مرحلة إعادة الهيكلة، أو يمكن أن تراهن على استقطاب هذه الودائع -بالعملات الأجنبيّة- إلى الكيانات السوريّة المملوكة منها.محاذير وتريّثثمّة العديد من المحاذير التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، قبل تخايل هذه الصورة الورديّة. فرفع العقوبات عن سوريا، على المدى المتوسّط، سيكون مرتبطًا بشكل النظام الجديد، وعلاقته بالفصائل المعارضة التي تملك النفوذ حاليًا. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ بعض هذه الفصائل مدرج أساسًا على لوائح الإرهاب والعقوبات، وهو ما يفرض النظر إلى شكل المسار السياسي المرتقب خلال الفترة المقبلة.
ومن المعلوم أن الدول الغربيّة ستأخذ بعين الاعتبار المسافة الفاصلة بين مؤسّسات الدولة نفسها، والشخصيّات المصنّفة على لوائح الإرهاب، وهو ما سيؤثّر على الجانب المرتبط بالعقوبات. وفي الوقت نفسه، من المحتمل أن تعيد الدول الغربيّة، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركيّة، النظر في العقوبات على تلك الشخصيّات والمنظّمات نفسها، في ضوء مصالح هذه الدول، أو أداء هذه الفصائل خلال المرحلة المقبلة.
أخيرًا، تذهب العديد من التحليلات إلى ترقّب تداعيات الحدث السوري على الداخل اللبناني، وتحديدًا من جهة التأثير المنتظر على الاستحقاقات الدستوريّة المقبلة. فالمضي قدمًا في إعادة الانتظام إلى المؤسّسات الدستوريّة، تحت وطأة هذا الحدث الخارجي، سيكون من شأنه تسريع تنفيذ الإصلاحات الماليّة المعلّقة، وهو ما سيؤثّر في نهاية المطاف على الوضعين المالي والنقدي.