يرحل الطغاةُ، طغاة العرب خاصة، لتبقى آثارهم وحكاياتهم تملأ الفضاء والألسن والضحايا، بضجيج البشاعات وأفعال إجرامية وإبادات ارتكبوها في حق شعوبهم الغنية التي انتهى بها الحال إلى البحث عن لقمة العيش في مراكز إيواء الآخرين، والخيام التي تذروها الرياح وأماكن القمامة والنفايات، هاربين مع أطفالهم وشيوخهم لمن تسنى لهم الهرب من مذابح جماعية وموت محقق بينما الإعلام والشعارات بنبرتها الواثقة اليقينية تلهج بالتحرير والصمود والتصدي بالاشتراكية والوحدة والاستقرار في حين أن أفعالهم وسلوكياتهم مع قطعان أجهزتهم الضارية تتجاوز الخيالات في جموحها الأسطوري والخرافي في شتى مناحي الحياة البشرية وجغرافيا البلاد الرازحة تحت القهر والقمع والتصفية بكل معانيها الواقعية والرمزية.مجلدات وموسوعات لا يمكنها أن تحصي تلك الارتكابات والفظاعات ربما النزر اليسير بمثابة نُبَذ ومقدمة لمتون تلك الفظاعات الدموية وبربريتها. السجون على سبيل المثال التي يعرفها السوريون جيداً لكن بعد سقوط الطاغية الابن اكتشفوا أكثر تلك المسالخ الهمجية الرهيبة التي يعجز الأدب والرواية والصورة بكل تقنياتها عن تجسيد رعبها واتساعها.طبقات وزنازين تحت الأرض لا يعرفون مفاتيح لها، منسيون منذ أربعة عقود في ذلك العالم السفلي بأعماق الجحيم للعذاب البشري.هناك ما سُمِّي في تاريخ الأدب بأدب السجون، في سوريا ويشمل بلاداً عربية كثيرة. أتذكر أول كتاب قرأته "الأقدام العارية" لطارق عبدالحكيم في القاهرة، والذي عرفته على صعيد شخصي لاحقاً في باريس حين جاء لإصدار مجلة هناك وغيره الكثير... في سوريا تتسع رقعة هذا الأدب وتتخذ أبعاداً أعمق وأفظع في ممارسة فنون التنكيل والتعذيب بفجور الجلادين في سقياهم الموت بالتقسيط الصبور للضحايا والمسجونين، والذين حين تقرأ، تحدث نفسك أن مجزرة بمثل هذا الحجم كيف تركت بعضهم على قيد الحياة الواهن. في سوريا، ازدهر هذا النوع من الأدب واتسع، فكيف لمن يقرأ "القوقعة" لمصطفى خليفة، وكتباً ويوميات ومذكرات لمفيد نجم، ياسين الحاج صالح، فرج بيرقدار، عبدالحكيم قطيفان والكثير الكثير أكثر من العدّ والإحصاء السريع، وقد عرفت بعضهم قبل السجن في مطلع العمر، وعرفتهم بعده، وهذه في حد ذاتها معجزة... كيف لهذا القارئ أن يأخذ قسطاً من النوم لليال عديدة من فرط ألم الصدمة وهول المشاهد التي يمارسها الجلادون بخيالهم الواسع في السجون. هناك بالطبع سجون كثيرة في سوريا الأسد الأب والإبن، وهي على كلٍّ إنجازهم الوحيد خلال خمسة عقود. لكن سجن صيدنايا، الضاحية القريبة من دمشق برز بعد سقوط الطاغية، في الإعلام أكثر من غيره.أتذكر في هذا السياق زميلة عرفتها في صوفيا، التي عادت إليها بعد عقود وهي تنتمي إلى عائلة كانت شريكة في الحكم، وحين حطم حافظ الأسد أفراد عائلتها المعروفين لدى السوريين وغيرهم سياسةً وأدباً، اضطرت للانتقال من دمشق إلى منزل متواضع قرب أحد السجون. كانت تحدثني أنها مع أمها لا تستطيع النوم من فرط صراخ الضحايا والمجلودين في السجن المجاور، حتى رحلت من جديد. وواقع الحال أن الطغاة والديكتاتوريين يحولون البلاد إلى سجن كبير ومسلخ يُحشر فيه السكان كالبهائم ويسميهم الإعلام الرسمي الشعب وربما العظيم والكريم، مهمة جزء منه التجسس على الجزء الآخر الذي تسند إليه مهام التصفيق والديكور لمناسبات الطاغية بكل أنواعها وأشكالها الجمة الوافرة.هذه الفرحة العارمة الجارفة للشعب السوري بكل مكوناته وعناصره، هذا الشعب الذي لم يستكن يوماً للظلم والإذلال بل استمر في مقاومته حتى اللحظة الراهنة رغم كلفتها الفادحة، فرحةٌ مُستحَقَّة وبداية مستقبل نقيضٍ لوحشية العهد البائد.وأتذكر مقولة لمحمد الماغوط، آخر عمره، مع الروائي والإعلامي أحمد علي الزين في قناة "العربية" وهو على سرير المرض يقول: "إن أسوأ نظام ديموقراطي أفضل من أفضل نظام ديكتاتوري".(*) مدونة نشرها الشاعر العُماني سيف الرحبي في منصة "إكس"