"عشرة أيام هزّت العالم"، كتاب للصحافي الأميركي والشيوعي جون ريد، كتبه العام 1919 وعرض فيه بشكل تفصيلي وتسجيلي لأهم الأحداث التي عاشتها الثورة الروسية الشيوعية وسقوط عائلة الرومانوف. ربّما لو عاش اليوم لكتب عن "تسعة أيام أخرى هزت العالم"، عن الثورة السورية وسقوط حكم الأسد، العائلي، الطائفي المتجذّر، الذي عمره أكثر من نصف قرن. والمفارقة أن الرئيس الأسدي المخلوع فرّ هارباً إلى بلاد القيصر الجديد في روسيا، فرّ عارياً بين ليلة وضحاها، مخلّفاً وراءه مقابر خصومه وجوع أنصاره وأبناء طائفته. من لم يقتلهم برصاصه، قتلهم بسياساته البلهاء وسرطان وجوده. لم نصدق أن الترسانة الأسدية سقطت في أيام. لم نصدّق أنّ جمهورية الخوف والظلام والرعب انتهتْ، انهارت، تفكّكت سريعاً، واختفى ماهر الأسد والنمر وسائر الوحوش. لقد هرمنا وشاب شعرنا، ولم يتغير النظام في سوريا، أكل عمرنا بالتاريخ الأسود وأخبار الحروب الأهلية المتنقلة والاغتيالات والسيارات المفخخة والتصفيات والاعتقالات والاختفاء القسري والتقديس ولعنة الأبد والتماثيل العملاقة والانتصارات الجوفاء والأب والابن والمسار والمصير وشبيحة الحواجز. كان أملنا بسقوطه أو رحيله خلال ما سمي "الربيع العربي"، وفقدنا الأمل عندما رأينا العالم يتوطأ على بقائه، إما بالدفاع عنه بزعم أنه يحمي "الأقليات" أو باختراع ترهات أن سقوطه دخول في المجهول، أو أن بقاءه يرتبط بأمن إسرائيل. سلّمنا بأن الرئيس المخلوع الآن، سيسلم ابنه الحكم كما تسلّم من أبيه، وستبنى له التماثيل مع الأيام، لكن في لحظة أظهرت الوقائع أن الديكتاتورية ليست قدراً.من يتابع مسار ديكتاتورية الأسد، لا بدّ أن يتذكر أدب الديكتاتورية في أميركا اللاتينية أو رواية "عالم صدّام" لمهدي حيدر. في "خريف البطريرك" لماركيز، يصف عالم ديكتاتوريات أميركا اللاتينية. إنه عالم يطغى عليه الفساد، الإبتزاز، الإغتيالات، الجنس، التصفيات وتعطّش مرضي للسلطة، يُبرز ماركيز صورة جسد الحاكم المُفكّك المهترئ. تصف الرواية ما ارتكبه الديكتاتور طوال مدة حكمه من جرائم إبادة وقتل وإبادة، وقد تمكن بفضل جرائمه من الإستمرار في الحكم طوال كل تلك المدة. نظام الأبد والبراميل في سوريا، أصيب بالاهتراء في السنوات الأخيرة، وظل "سيادته" يكابر، يتذاكى، يمارق. ظهرت حقيقه مع تحرّك المعارضة المسلحة، المشهد تبدل سريعاً، كأننا في أيام عشنا عمراً جديداً، سقطت المدن السورية تباعاً، سقطت بلا معارك ضخمة، آلاف المقاتلين التابعين لإيران تبخروا. توهمنا أن حمص ستكون "أم المعارك"، ستكون خط الدفاع الشرس عن نظام البراميل، لكنها كانت نزهة أو رحلة نحو قلب دمشق.كانت سوريا سجناً كبيراً مخيفاً ورهيباً، وداخل السجن الكبير، سجون صغيرة "نوعية" وفتاكة، زاخرة بأنواع التعذيب والقتل والاغتصاب والقهر والذلّ. كانت السجون الصغيرة مقبرة للأحياء وأصحاب الرأي والنساء والأطفال. سجن صيدنايا المريع، السجن الأحمر أو المسلخ البشري، أو الباستيل السوري، تعددت التسميات والنتيجة واحدة. في 8 كانون الأول اقتحمه موطنون وحرروا المساجين والمعتقلين.. السجون بشكل عام، كانت المشاهد الأكثر تأثيراً، مشاهد تُبكي، تذرف لها العين تلقائياً. لم نصدق اللحظة. أناس لم يصدقوا أنهم خرجوا من العتمة من وراء القضبان، أو ولدوا من جديد. خرج الطيار الذي رفض أن يقصف حماة وأمضى 43 عاماً وراء القضبان، وخرجت المدونة الشابة التي اتهمت زوراً بالتجسّس لجهات خارجية، وخرج أناس لا يعرفون لماذا هم في السجن، وأناس فقدوا الذاكرة في السجن، وأناس لا يعرفون منذ متى هم في السجن، أناس أدخلوا السجن ولم يخرجوا، قتلوا، أو أحرقوا. سجينات مع أطفالهن، ربما الأطفال ولدوا في السجن.كان الباستيل السوري مكاناً للقمع والوحشية وانتهاك حقوق الإنسان. نتذكر تقرير "قيصر" والأجساد المعذبة الخاوية الميتة قتلاً أو جَلداً أو جوعاً. كان السجن مسلخاً فعلياً، وسيكون سجن صيدنايا منجماً للذاكرة وكتابة الأبحاث والروايات عن الزمن البائد.عدا مشهد السجن المرعب، ظهرت سجلات الشبان المختفين من عقود، لا سيما اللبنانيون. شباب كانوا في مقتبل في العمر، صارت مصائرهم معلقة وجدان أهاليهم، لا هم موتى ولا هم أحياء، فُقدوا على الحواجز السورية.كتب أحد الظرفاء: يتساءل خبراء عن طبيعة هذا النظام الذي جعل نساء بالتنانير القصيرة يرقصن على سطوح السيارات فرحاً بانتصار "تنظيم القاعدة" عليه.