كأن طرابلس تأخذ ثأرًا مؤجلًا من نظام بشار الأسد. ومنذ إعلان سقوطه على يد المعارضة، لم تهدأ الاحتفالات في عاصمة الشمال وجوارها. مظاهر الفرح كثيرة. تكبيرات في المساجد، توزيع حلوى، مفرقعات نارية، تظاهرات حاشدة، وإطلاق رصاص في الهواء، مسيرات على الأقدام وفي السيارات، رقص واحتفالات ودموع فرح كثيرة.
لبنانيون وسوريون، تجمهروا معاً في ساحة النور، وفي أحياء عدة من المدينة في باب التبانة والقبة وغيرهما. وهم يرفعون العلمين السوري واللبناني، وكأنه تحريرٌ لبلدين في يوم واحدقلب الشام ولبنان"حرية للأبد.. غصب عنك يا أسد"، هذه واحدة من الشعارات التي صدح بها المتظاهرون في طرابلس. أحدهم قال لـ"المدن": "سوريا للسوريين، إسلاميين ومسيحيين، سوريا هي قلب الشام ولبنان، وهنا نحتفل بهذا النصر الذي انتظرناه طويلًا. هو نصرٌ لأمهات الشهداء والمفقودين ولكل من قتله النظام في لبنان وسوريا".
وها هي طرابلس التي احتضنت السوريين طوال سنوات الحرب، ودفع الآلاف من شبابها ثمن الولاء للقضية السورية ضد النظام السوري، تعيش عرسًا استثنائيًا.الناس في المدينة، يقولون إنهم لم يناموا طيلة ليل السبت – الأحد. طوال الليل، تسمّر الناس أمام الشاشات، وتابعوا لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، تقدم المعارضة السورية في دمشق، إلى حين إعلانها رسميًا سقوط النظام. لكن إعلان مغادرة الأسد فرارًا من دمشق، وإسقاط تمثال والده حافظ الأسد، كان له طعم آخر، كما يقول متظاهرون في المدينة.
وفي عكار أيضًا، شهدت بلدات عدة، احتفالات بمشاركة النازحين السوريين، وكذلك في حلبا التي شهدت تجمعات ومسيرات سيارة ابتهاجًا وفرحًا بسقوط الأسد.التاريخ المجيد والذاكرة الأليمةهكذا، أصبح 8 كانون الأول 2024، تاريخًا مجيدًا في طرابلس، عنوانه سقوط الأسد إلى الأبد. تاريخ يأتي، بعد حوالي أربعة أشهر، على الذكرى السنوية الحادية عشرة، لتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، في مؤامرة حاكها النظام السوري، ونفذها في 23 آب 2013.
في ذلك التاريخ الأليم في طرابلس، تولتْ أيادٍ أمنية في المخابرات السورية، وبأدواتٍ لبنانية، مهمة فتح الطريق أمام تسلل سيارتين مفخختين، بإشراف وتخطيط ضابطين من الاستخبارات السورية، وهما النقيب في فرع فلسطين في الاستخبارات السورية محمد علي علي، والمسؤول في فرع الأمن السياسي في الاستخبارات السورية ناصر جوبان، لتدبير وتنفيذ عملية تفجير المسجدين المحتشدين بالمصلين ظهر ذات جمعة.مجزرة المسجدينتفجير النظام للمسجدين، تسبب بمجزرةٍ أغدقت شلالًا من الدم والأشلاء والجثث المحترقة والرؤوس المقطعة، ومئات الجرحى. وهو واحد فقط، من سلسلة جرائم وأحداث أمنية اقترفها النظام في المدينة.
طرابلس، حالها كحال دمشق وحماة وحمص وحلب وإدلب واللاذقية ومختلف المدن السورية، احترف فيها النظام حرب الإبادة والتدجين والإخضاع، عبر أجهزته وأدواته المسلحة.
وهذه المدينة المذبوحة على أيادي الأسد، أبًا وابنًا، تحتفي اليوم بسقوط النظام. وهي لا تنسى في زمن الوصاية السورية، مجزرة باب التبانة التي ارتكبها الجيش السوري في صيف 1986، والتي أودت بحياة أكثر من 700 لبناني أعزل.الثورة السوريةطرابلس، أكثر المدن اللبنانية التي آمنت بالثورة السورية منذ اندلاع الحرب في 2011. وهي المدينة التي صدحت بشعار "يسقط بشار الأسد". لكنها أيضًا، دفعت ثمنًا باهظًا في الداخل اللبناني، وتسببت الحرب السورية بصبغ الآلاف من شبابها بتهمة الإرهاب، لا سيما في المناطق الأكثر فقرًا وتهميشًا.
وكما لطرابلس في سجون الأسد الكثير من المفقودين، قبع المئات من شبابها في السجون اللبنانية، من دون محاكمات، بتهمة التواصل أو القتال مع جماعات إسلامية متطرفة في سوريا.وطرابلس التي تحتفل بسقوط الأسد، تفكر أيضًا في اليوم التالي لما بعد النظام، وتداعياته عليها، سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا.لكنها اليوم، تعيش ذروة الانتصار، وكأن سقوط الأسد، هو ما كرس تحررها من عهد الوصاية السورية واحتلال قوات الردع السورية (1976-2005) للمدينة.