"ليست سوريا الأسد، إنها سوريا العظيمة". هذه الجملة الخالدة التي قالتها الفنانة السورية الراحلة مي سكاف، باتت أمراً واقعاً صباح الثامن من الشهر الحالي. لقد عاد اليلد إلى أهله، وفر الطاغية بشار الأسد أمام الموجة الثانية للثورة الشعبية، التي بدأت من استعادة حلب في السابع والعشرين من الشهر الماضي من سيطرة قوات النظام والميليشيات الطائفية الإيرانية.
هرب سراً، كما يليق بمن ارتكب جريمة، وانتهى بذلك عهد آل الأسد الذي قام ل 55 عاما على الدم، وأول خطوة قام بها السوريون الذين نزلوا للشوارع هي ازالة تماثيله هو والده، إنهم يريدون مسح آثار الخوف والرعب والجريمة، وإيصال رسالة بأن سوريا لم تعد مزرعة آل الأسد، التي استولوا عليها عام 1970، وسجلوها ملكية خاصة باسمهم، الأب أعد ابنه باسل ليخلفه، لكنه قُتل في حادث سير عام 1993، ومن ثم انتقل الى ابنه الثاني بشار، رغم أنه يبدو عليه غير مؤهل لقيادة اليلاد، وحكم بشار سوريا كصاحب مزرعة، هو وزوجته اسماء، وصارا يحضران ابنهما حافظ كي يتولى المسؤولية بعد والده. كانت العائلة واثقة من أنها باقية إلى الأبد، ولن يزحزها احد، من دون أن تتعلم من التاريخ، ويخامرها أي شك بأن السوريين يقرأون في كتاب الحرية.
دفع كل سوري ثمن الحرية، ليس هناك بيت لم يعرف ابناؤه السجون والتعذيب أو المنافي أو القتل على يد النظام، ليس هناك أسرة لم تعرف الإذلال والقهر وسلب الحقوق، ليس هناك معارضاً أو اكاديمياً أو كاتباً أو صحافياً أو رجل أعمال وصاحب مهنة، لم يتعرض للقمع ومصادرة الحرية، ليس هناك محافظة لم تحولها العائلة الأسدية الى استثمار شخصي وتنهبها وتمنعها من التطور. ليس هناك مهنة لم تخضع لقوانين الطوارئ بما في ذلك الحلاقة وتنظيم الافراح.
لم نكن نظن بأن الحرية قريبة إلى هذا الحد. قمعنا نظام عائلة الأسد حتى صرنا لا نصدق أحلامنا. لقد تابعنا العمليات العسكرية طيلة عشرة أيام، بدءا من حلب، ورغم تهاوي النظام، كانت القلوب تخفق توجساً وقلقاً، كلما أرادت أن تفرح حتى النهاية، تجد ما يشدها نحو الوراء. إنها النكسات واحباطات التجارب السابقة، التي جعلت في داخل كل منا رقيباً على حالة الفرح. صوتنا الخفي يقول لنا، لا تفرح كثيرا كي لا تنتكس. كل افراحنا انتهت بخيبات. كأن الناس في حلم، لا احد يصدق، بأن الأسد هرب من دمشق من دون أن تُطلق رصاصة في العاصمة، أو يتم تدمير أي معلم أو تُخرب مؤسسة أو يحصل تجاوز على أحد.
اللحظة السورية خاصة جدا. وكل من تابع التطورات لاحظ بأن الشعب السوري لم ينم منذ عدة أيام، الكل ينتظر، صغارا وكبارا، وهناك عائلات عاشت الحدث على مدار الوقت، كلما غفا احدهم بقي آخر، يتابع التطورات ويسجل ما يحصل لحظة بلحظة وتفصيلاً بتفصيل، مخافة أن يفلت منهم شيء. يريدون أن يعرفوا كل ما يحصل، كأن كل واحد يدير الحدث ويتحكم به. هناك ملايين تترقب بوجل شديد منذ ان تجاوزت الفصائل حماة، الناس في المخيمات والمنافي وفي الداخل أيضا. ينتظرون لحظة اعلان نهاية النظام. ولا احد كان يظن أن اللحظة ستحصل قريباً، هناك جبال من المخاوف تركها حكم آل الأسد من السقوط المدوي، من الفوضى، التي يمكن ان تحصل من سيناريوهات عربية وغير عربية حصلت في حالات مماثلة، الكل يضع يده على قلبه بأن يحصل انتقال هادئ والحفاظ على المؤسسات العامة وحقن الدماء وتجاوز سلبيات الماضي والثأر. الكل يريد سوريا على قدر عذاباته وأحلامه، غير منقوصة، فرحة كاملة اليوم وغداً وإلى الأبد.
عدم حصول معارك في حلب ودمشق علامه مهمة على أن التغيير الآتي سوف سيسير بطريقة سلمية، وعلى أسس مدروسة تضع الوضع المعقد في نصابه، من دون استخفاف بالتراكمات الكبيرة التي خلفها حكم عائلة الأسد. تحتاج اللحظة إلى وعي ونضج وحكمة وتكاتف وعمل جماعي تشاركي، ومقدرة على قراءة الوضع المحيط بنا من دون تسرع أو ردود فعل.
يريد السوريون الحرية، ولكن بلا دم، بلا ثأر، بلا تطرف، انتقالا مدروسا يطوي صفحة العهد البائد ويفتح بابا واسعا الى حياة توازي قدر الضحايا التي قدموها للخلاص من عائلة الأسد.