تحت جسر "السيد الرئيس"
أكثر ما كان يميز هذا الحيز من العاصمة رائحة البول والنشادر. تحت الجسر وعلى جانبي السلالم الحجرية، والجدار الملاصق لمعرض دمشق الدولي، إلى كونه تجمعاً لسرافيس وباصات النقل الداخلي وقربه من المتحف الوطني، لم يجعله يسلم من رائحة السخام المنتشرة فيه، وعلى الأرصفة تشغل بسطات الكتب المستعملة والأكشاك والمخبرون حيزاً لا يستهان به. دخان المازوت الحالك، وخليط المشهد برمته لن يثني أحداً أياً كان عن المرور به. إنه واحد من الشريانات الأساسية في دمشق. يتواعد الأصدقاء فيه، ومن هناك يذهبون إلى جهة ثانية. في الليل الإنارة خفيفة جداً ولا يمكنك أن تسأل أو تتحدث عن تلك الظلمة المختلطة مع الرائحة. تصغي لهمهمات الجسد والكائنات الشاحبة المحمومة والقصص التي يروونها في محادثات جانبية. منتصف الليل ولحسن الحظ سيحدث شيء خارق للعادة: ستطيرأعمدة الكهرباء لوحدها وسيقوم الرجل الذي يجلس بجانبي في الباص بالقفز من الشباك لأن مفتش البطاقات ظهر فجأة في عملية هي أشبه بمداهمة، وتبدأ النظرات المتبادلة بين الركاب وأتهيأ للبحث عن بطاقتي قبل أن أُسأل عنها، ولن أجدها إلا بصعوبة بالغة بين صفحات الكتب التي أحملها في يدي.
تشعر أن اليوم لا يمر دون حراسة، ثمة لا مرئيون يرمقونك ويحيطون حياتك دون أن تدري.
مفتش الباص والحارس الواقف بباب الجامعة وسور المدينة الجامعية والشرطي الذي ينتصب في عرض الطريق منتظراً سيارة تمر كي يضبط صاحبها مخالفة أو يأخذ منه البرطيل. الأشخاص الغامضون الذين يظهرون فجأة أمامك، وأنت تتمشى مع صديقتك قرب سور حديقة تشرين القريبة من قصر الشعب ويسألونك عن الهوية، وترفض فينهالون عليك بما تيسر من الصفعات وتترك صديقتك وراءك، وربما تفلح أن تصل إلى غرفتك على قدمين مرتجفتين وقلب مكسور.
ترمي بجسدكَ على السرير وتبكي وتئن مثل نمرٍ جريح، وستحلم بالسفر إلى بلاد قصية عن هذا المكان الذي لا تستطيع أن تطلب فيه النجدة من أحد.تمرّ الأيام والشهور، إلى يوم كنتُ أمشي قرب الجامعة في البرامكة، نازلاً على الدرج الحجري للجسر، باتجاه موقف الباصات، ملتفتاً إلى صوت يناديني باسمي، وإذ بصديقتي ذاتها، التي لم أرها كل هذه الفترة الطويلة، تلوّح لي من شباك الميكرو المسرع، لوحتُ لها أيضاً لكنني لم أستطع لفظ اسمها، ابتعدت هي أيضاً، وستختلط يدها بالظلال وأعمدة الجسر وهمهمات العساكر الذاهبين في إجازة.*قصيدة الشوارع
الشوارع التي كنا نقطعها بين البرامكة وباب مُصلى وطريق الزاهرة القديمة،
وصولاً إلى حارات التضامن في عزّ الظهيرة، وفي مثل عمري ذلك الزمان المتفحم،
كنت أشير إلى منزلها من نافذة الميكرو، وكنا بشراً شبيهين بموتى المقابر البحرية،
محشورين داخلها كتماثيل بقمصان منزوعة الأزرار.
كان كافياً أن أجد مفتاح البيت فوق ساعة الكهرباء، في الوقت الذي يعمّ الظلام المدينة.
*
أهم شيء منسيّ تلك الأدراج التي لم يكتشفها أحد،
تلك الحوليات النائمة تحت الجلد
لقدرة شخصٍ واحدٍ أن يحوّل شعباً
إلى جالية مرمية في صحراء.
*جمهورية الخوف
جمهورية الخوف بُنيت بأكملها بفزَّاعة الشعارات الطنانة، على مزيجٍ من ظلم هائل، محصور في متناول قلّة، يمتلكون كل مفاتيح العمارة المتقنة التأسيس، ولها صلاحيات مفتوحة لتطوير هكذا نوع من اقتصاد الإكراه، والذي غايته صناعة جيش من الكائنات الجاهزة لتقديم الولاء بشكل مشرّف كلما سنحت الفرصة. لا وقت للراحة والكسل فاللافتات التي كانت تغطي المدن بإمكانها أن تستر نصف عري الكرة الأرضية، والألوان التي كان يتقاسمها الرسامون كي يصبغوا جدران الأروقة اللانهائية لمستعمرة النوم والطبول والميكروفونات.
الوجوه المعفرة بالوحل وروائح التعفّن في السجون التي بنيت في العراء.
المنازل المفتوحة الأبواب على الهشيم والخسارات.
المكانة الرفيعة للحزن على وجوه أمهاتٍ ينتظرن أبناءهنّ على العتبة لدهرٍ لا اسم له، ويجمعن الصبر في حصالة نحاسية
إمبراطورية الانتظار تجترح المعجزات.
*هل ستبتسم لمن يهم بقتلكَ،
وتدعوه إلى العشاء مع الأهل والأصحاب
وتعطيه معطفكَ كي يتغطى تحت النجوم،
وأساور زوجتكَ كي يفرح،
وأكياس الطحين كي يصير بينكما خبزٌ وملح،
وعلبة سجائركَ كي يُطفئها في ظهورِ أبنائكَ
وهم يدخلون في المرايا واحداً واحداً.*- فن العقاب في جمهورية "إلى الأبد" جعل المواطن متعهداً لآلامه ومنتجاً وممثلاً وجابي ضرائب وشوفير تاكسي بعد الدوام لا يشقُّ له غبار.
- السوري حتى وهو يبكي تخال دموعه معلّقة من المعلقات الجاهلية، موزونة على بحرٍ لا سفن فيه ولا نجوم.
- لم يغادر زنزانته الإنفرادية طيلة عقود، حتى وهو يأخذ قيلولته أو يتشمّس تحت صندوق الشكاوى وظلم الذين اشتروا حياته بثمنٍ بخس. تدمير المكان الآن يجمع في صورة رمزية شكل الخيال المريض الذي اعتاد مبارزة طواحين الهواء، والإصغاء إلى التصفيق الطويل في مجالس الشعب.
- ولأن البلد ليست بئر غاز وخزنة ذهب أو رزم أموال مرمية في صحراء.
ليست هيلانة الإغريق.
ولا طروادة المدن. *يخرجُ من صورتهِ
الرجلُ في الصورة
لن يرحلَ
قبل أن يقصف عمر الظلّ.
يكوي لحم البلاد بمحاسن العائلة،
وملمس الدم،
والكتب التي تمدح بلوغه التسعين.
الرجل الذي يحملنا في ابتسامته
ورسائل البريد،
ينحني على البيوت ومعطف التجاعيد،
يبارك طريقتنا في المشي،
وطوافنا حول تماثيل الأبناء.
الرجل المقلوب كسُلَّم،
يَصرّ كظهيرة كالحةٍ،
ممدودةٍ فوق الوجوه
وهي تئن كصدقة الشحاذ.
يخرجُ من صورته وينام وحيداً.
*
2000 ميلادية