بوتيرة متسارعة ولم تكن متوقعة، سقط النظام السوري. غادر بشار الأسد قصره الرئاسي. لتفتح مرحلة جديدة من تاريخ سوريا، فيها الكثير من التحديات وسط مباحثات حول مرحلة ما بعد سقوطه. بخلاف التوقعات بطول أمد المعركة ومع الانسحابات التي كان يجريها الجيش السوري من مراكز المحافظات والمدن الكبرى وسط غياب واضح لإرادة القتال، قدّمت قوى المعارضة مواقف تحرص فيها على وحدة سوريا، وأن سوريا لكل السوريين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.
كانت معركة حمص هي المفصل الأساسي والتحول الإستراتيجي، فبعدما انسحبت منها قوات الجيش السوري وسيطرت عليها المعارضة كما جرى في المحافظات السابقة، انتقل الاهتمام الأساسي إلى دمشق وريفها والتي كانت تشهد تحركات دفعت الأسد إلى مغادرة البلاد. بعض المؤشرات التي سبقت لحظة السقوط، تفيد بصراعات كثيرة وقعت داخل بنية النظام، وبين دمشق وحلفائها، وسط اتهامات جرى توجيهها إلى كل الحلفاء ولا سيما روسيا وإيران بالتخلي عن النظام والسماح بسقوطه، أما الحلفاء فاتهموا الجيش السوري بأنه لا يريد القتال ويريد انتظار تدخل قوى أخرى كحزب الله والعراقيين. كانت حمص معركة ذات بعد استراتيجي، ولم يكن الإيرانيون وحزب الله يريدون التسليم بسقوط حمص، ولذلك تم إرسال قوات من الحزب إلى تلك المنطقة نظراً لرمزيتها الاستراتيجية ولقربها من الحدود اللبنانية، وباعتبارها المرتكز الأساسي لسوريا المفيدة ولخط الإمداد.
لم تنجح إيران وحزب الله في صدّ هجوم قوى المعارضة في حمص، لفرض موازين قوى للدخول في آلية تفاوض، والتي اختصرها وزير خارجية إيران بثلاثة احتمالات، إما حرب أهلية طويلة، وإما تفاوض يقود إلى تسوية، وإما سيطرة كاملة لقوى المعارضة. في الاحتمالات الثلاثة هناك تسليم إيراني بانعدام القدرة على السيطرة الكاملة على سوريا المفيدة.
بإصرار النظام وإيران على عدم تقديم أي تنازلات جدية، كانت الحرب ستتجدد بقوة، ما سيجعل سوريا مفتوحة على احتمالات سلبية وسودواية، خصوصاً أنه سيتم تكريس "تقسيم" مناطق النفوذ، لا سيما في ظل توسع "الاكراد" في الشمال والشرق، وسط مساعي الإيرانيين للاحتفاظ بنقاط أساسية في دمشق وحمص وامتداداً نحو الساحل، على أن تكون قوى المعارضة مسيطرة على حماه، إدلب وحلب، فيما الجنوب السوري سيكون ذات تأثير أردني أو إسرائيلي، بالإضافة إلى حالة السويداء. هذا النموذج يذكر بنموذج الجنرال غورو مع دخول الانتداب الفرنسي إلى سوريا، وهو ما رفضه السوريون يومها، وهناك تأكيدات على رفضه حالياً بالاستناد إلى مواقف واضحة تطلقها قوى المعارضة. وهو ما يمكن البناء عليه بعد مغادرة الأسد.
لا يمكن إغفال المخاوف مما قد يعمل على حياكته الإسرائيليون في الاستثمار بكل هذه التناقضات السورية، لتغذية منطق الإنقسام والتقسيم. وتجدر العودة إلى كلام وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي تحدث قبل فترة عن تعزيز "تحالفات الأقليات" وتعزيز علاقة إسرائيل مع الأكراد والدروز، وهو مشروع إسرائيلي قديم جديد يهدف إلى تفتيت المنطقة وخلق دويلات طائفية ومذهبية، وهو ما يستوجب التعاطي معه بمسؤولية ووعي. وفي هذا السياق فإن النظام يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية بالإضافة إلى حلفائه وخصوصاً إيران، كي لا تتحول سوريا إلى ساحة صراع لتصفية كل القوى المقاتلة على أراضيها وما سيتأسس عنه من فرز تقسيمي. حزب الله أيضاً أمامه تحدّ أساسي وهو الذي خرج لتوه من حرب قاسية جداً مع إسرائيل، وتفيد التقارير الإسرائيلية بأن جزءاً كبيراً من حالة انكشافه أمنياً وعسكرياً كان تدخله في سوريا، ولا بد من الالتفات إلى أن دخول الحزب إلى ساحة القتال السورية ستحقق لإسرائيل أهدافاً كثيرة، أهمها الاستمرار في ضرب سوريا وإضعافها، وإنهاك الحزب وخسارته في حرب استنزاف جديدة لغالبية مقدراته.
على هامش هذه النقاشات ووقع المعارك العسكرية، هناك نقاش من نوع آخر يجري على مستوى دولي وإقليمي، يشير إلى البحث في مرحلة ما بعد الأسد، أو اليوم التالي في سوريا، ما تقدّمه المعارضة ينذر بإيجابية حول بقاء سوريا موحدة، وسط بحث في تشكيل هيئة حكم انتقالية، أو إنشاء مجلس عسكري يضم جهات مختلفة، يتسلم السلطة كمرحلة انتقالية بانتظار ترتيب الأوضاع السياسية وتنظيم إنتخابات لتشكيل سلطة مدنية وكتابة دستور جديد. هذا أيضاً سيكون أمامه الكثير من التحديات، بما تحمله من انعكاسات وتداعيات على الواقع السوري وعلى دول الجوار.