وراء صورة رجل هادئ الطباع ومبتسم غالباً تنقلها كاميرات الصحافيين، يبقى الرئيس السوري بشار الأسد الحاكم الذي قاد حرباً بلا هوادة على مدى 13 عاماً داخل بلاده تسببت بدمارها واستنزاف مقدراتها بعد قمع دام لشريحة واسعة من شعبه طالبت بالحرية.
وفي خضم ما وصف بأنه إحدى أكثر الحروب عنفاً في القرن الحادي والعشرين، لم يبد الأسد منذ العام 2011، أي علامات تردد أو تراجع في مواجهة معارضيه. لكن منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، تبدو سلطته أمام العالم مزعزعة وضعيفة، في مواجهة هجوم مباغت ينفذه تحالف من فصائل معارضة غالبيتها إسلامية، نجم عنه خسارة قواته لمناطق عدة بسرعة مذهلة بينها مدينتان رئيسيتان هما حلب وحمص في أسبوع واحد، قبل أن تنتقل العدوى الى مجموعات أخرى محلية معارضة سيطرت بدورها على مدينتي دير الزور ودرعا ومحيطهما، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس".ولطالما قدم الأسد نفسه حامياً للأقليات وحصناً ضد التطرف والفوضى، وحظي بدعم من روسيا وإيران و"حزب الله" اللبناني في النزاع مكنه من استعادة السيطرة على الأرض اعتبارا من العام 2015 بعد أن كانت قواته خسرت أجزاء واسعة من الأراضي السورية.وباستثناء صور قليلة له بالزي العسكري ربما يصادفها زائر دمشق أو مدن أخرى عند نقاط أو حواجز أمنية، يظهر الأسد دائماً بطوله الفارع وبنيته الجسدية النحيلة، ببزات رسمية وربطة عنق. وفي اجتماعاته الرسمية، وخلال استقباله ضيوفاً، في المقابلات أو حتى خلال تفقده الجبهات في أشد سنوات النزاع عنفاً، يتكلم بشار الأسد، طبيب العيون السابق البالغ من العمر 59 عاماً، دائما بنبرة هادئة ولكن حازمة تتخللها لحظات توقف وابتسامات غامضة.ووصل بشار الى الحكم العام 2000 بعد وفاة والده حافظ الذي حكم البلاد لمدة 30 عاماً. وخلال سنوات النزاع، نظمت انتخابات رئاسية أكثر من مرة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وأعيد انتخابه في كل مرة، في انتخابات كانت محور انتقادات وتساؤلات حول نزاهتها من دول عدة.وقال صحافي ممن التقوا بشار الأسد أكثر من مرة قبل الحرب وخلالها: "بشار الأسد شخصية فريدة ومركبة. في كل مرة التقيته، كان هادئاً وغير متوتر. حتى في أشد لحظات الحرب الحرجة والقاسية، وهذه تماما صفات والده" حافظ الأسد الذي حكم سوريا لمدة ثلاثين عاماً. وأضاف: "استطاع أن يكون الرجل الذي لا يستطيع أن يستغني عنه أحد"، مضيفاً: "ربما يكون من السهل ترتيب الأوراق، لكن في السياسة، بشار الأسد أتقن لعبة خلط الأوراق".وورث الأسد الابن عن والده الراحل، كما يكرر عارفوه، الطباع الباردة والشخصية الغامضة. تتلمذ على يده في الصبر واستثمار عامل الوقت لصالحه. ولعب ذلك دوراً أساسياً في "صموده" في وجه "الثورة" التي اختار قمعها بالقوة، والحرب التي تعددت جبهاتها ولاعبوها، ثم "العزلة" العربية والدولية التي بدأت تنفك منذ سنوات عندما تمكن من البقاء في منصبه.وكان والده حافظ الأسد زعيم حزب "البعث" الموجود في السلطة منذ أكثر من خمسين عاماً، وفرض في سوريا نظاماً أمنياً مشدداً أمكن من خلاله سجن أي شخص لمجرد الشك في ولائه. وتبدلت حياة بشار الأسد بشكل جذري العام 1994، إثر وفاة شقيقه الأكبر باسل الذي كان يتم إعداده ليحكم البلاد خلفاً لوالده، في حادث سير قرب دمشق.واضطر بشار للعودة من لندن حيث كان يتخصص في طب العيون، وحيث تعرف إلى زوجته أسماء الأخرس المتحدرة من إحدى أبرز العائلات السنية السورية والتي تحمل الجنسية البريطانية، وكانت تعمل مع مصرف "جي بي مورغان" في حي المال والأعمال في لندن. وقبل الانتفاضة الشعبية، لقبت أسماء الأسد بـ"وردة الصحراء"، ثم شبهت بعد الثورة بماري أنطوانيت.والتحق الأسد بالسلك العسكري وتدرب على يد والده على الملفات السياسية. وبعد وفاة والده العام 2000، أصبح بشار الأسد، وهو في الرابعة والثلاثين من العمر، رئيساً عن طريق استفتاء لم يشهد أي معارضة، فيما تم تغيير الدستور السوري في لحظات من أجل السماح له برئاسة البلاد لأن عمره لم يكن يسمح له بالترشح لمثل هذا المنصب.وفي بدايات عهده، ضخ بشار الأسد نفحة من الانفتاح في الشارع السوري المتعطش إلى الحرية بعد عقود من القمع، فسمح بإقامة ندوات ثقافية ونقاشات سياسية. لكن هذه الفسحة الإصلاحية الصغيرة سرعان ما أغلقت، واعتقلت السلطات المفكرين والمثقفين المشاركين في ما عرف وقتها بـ"ربيع دمشق". وقبل اندلاع النزاع، اعتاد سكان دمشق رؤيته في الشوارع، يقود سيارته بنفسه، ويرتاد المطاعم مع زوجته. وحتى الآن، يعلق العديد من أصحاب المقاهي والمطاعم في دمشق صور شخصية لهم مع الأسد أثناء زياراته.لكن ذلك كان جزءاً من حملة علاقات عامة منسقة تم الكشف عنها لاحقاً. وفي العام 2011، ومع اندلاع الاحتجاجات المناهضة لنظامه، أعطى بشار الأوامر بقمع المتظاهرين السلميين، وتحولت الاحتجاجات نزاعاً دامياً سرعان ما تعددت جبهاته ولاعبوه. ورغم انشاقات كثيرة عن الأجهزة الأمنية سجلت في بداية النزاع، بقي الجيش وفياً له.وأودى النزاع بأكثر من 500 ألف شخص وهجر وشرد الملايين داخل البلاد وخارجها، وسوى مناطق كاملة بالأرض. وظل بشار متماسكاً بينما كان يكرر ما قاله منذ السنة الأولى للنزاع بأن بلاده ستخرج "منتصرة" بمواجهة ما وصفها بـ"مؤامرة" نسجتها قوى خارجية ضدها.وبعد بدء هجوم الفصائل المسلحة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، كرر بشار تلك القناعة. وندد بـ"التصعيد الإرهابي" الذي قال إنه يهدف إلى "محاولة تقسيم المنطقة وتفتيت دولها، وإعادة رسم الخرائط من جديد".