ضعف النظام السوري الواضح اليوم، وانهياره السريع في غضون أسبوع واحد فقد خلاله السيطرة على محافظات كاملة، بما في ذلك حلب وحماة، أعاد الأمل لملايين السوريين الذين يبكون ويضحكون في مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما ظنوا لسنوات أن ثورتهم وصلت إلى طريق مسدود، في تعبير عن مشاعر معقدة تتراوح بين الفرح والذهول، وتتجاوز مجرد التهليل للجهاديين كما قد يتهمهم البعض، وتشكل في مجملها انعكاساً لعقود من القهر والقمع جعلت أي احتمال للخلاص من النظام، مهما كان الثمن أو الطريقة، سبباً للارتياح.
وحتى في عالم مثالي، تكون الحدود واضحة فيه بين الخير والشر وبين الأبيض والأسود، لا يمكن وصف النظام السوري على أنه البديل الجيد لأن الطرف الأخر هو فصائل يتزعمها تنظيم جهادي فك ارتباطه بتنظيم "القاعدة" شكلياً قبل سنوات. وتتحول تلك المفاضلة بين السيء والأقل سوءاً إلى مشكلة أخلاقية عندما تصبح تهمة تتوجه للأفراد من الطرفين، ممن يناقشون الحالة السورية اليوم.ويكفي القول أن سوريا الأسد، منذ نشأتها كدولة بوليسية مطلع سبعينيات القرن الماضي، إثر انقلاب عسكري نفذه الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل توريث الحكم لابنه بشار العام 2000، قدمت للعالم نماذج للرعب المعاصر مثل سجن تدمر سيئ السمعة أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية "أمنستي" بـ"المسلخ البشري" وبأنه "أسوأ مكان على الكوكب"، للتذكير بمعنى الحياة تحت حكم نظام الأسد.
#حماة • "المقدم علي المصري"، المعروف باسم المقدم علي رئيس مفرزة الامن العسكري في #الميادين وقع اسيراً في قبضة الثوار في #حماة وعثروا في هاتفه على فيديوهات له وهو يُعدم مدنيين بمسدسه.#ردع_العداون #حماة_تتحرر #سوريا_تتحرر pic.twitter.com/c3UjqLMRui
— ghada (@70ghada) December 5, 2024
ومنذ بدء الاحتجاجات العام 2011، دخل نصف مليون شخص إلى سجون ومراكز اعتقال تابعة للنظام السوري، قضى نحو 60 ألفاً منهم تحت التعذيب أو نتيجة ظروف اعتقال مروعة، بحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، وبات ذلك أيضاً سوقاً يجني منها النظام السوري الأموال عبر ابتزاز عائلات المعتقلين والمغيبين قسراً، سواء لتقديم معلومات عنهم أو لنقلهم إلى السجون المدنية.هذه الأهوال، وغيرها، لم تتوقف على مدار عقود، وخلقت جرحاً عميقاً في ذاكرة السوريين. في مواقع التواصل، تُروى قصص الناجين من المعتقلات بكثافة. أصدقاء الضحايا وأفراد عائلاتهم يستذكرون صورهم وأسماءهم، موثقين معاناة أجيال بأكملها تحت حكم النظام، فيما تشكل صور الأمهات اللواتي يلتقين بأبنائهن بعد سنوات من الفراق القسري بسبب التهجير، مدخلاً للشعور بسعادة حقيقية نادرة ضمن بلد مأزوم.والقهر الذي عاشه السوريون لأكثر من خمسة عقود، والذي تعاظم بعد ثورة العام 2011 بسبب الحل الأمني الذي اعتمده النظام لمواجهة المظاهرات السلمية حينها، يظهر اليوم بصورة الفرح الذي طال انتظاره، فيما يبدو المشهد ككل عاطفياً، مع صور المعتقلين المحررين من السجون سيئة السمعة، بما في ذلك أشخاص اعتقلوا في الثمانينيات، والمقابر الجماعية التي عثر عليها، ومقاطع الفيديو التي توثق الإعدامات الجماعية لمدنيين، وصولاً للقاءات التي تجمع معارضين سوريين بأمهاتهم تحديداً، بعدما أمضوا جل العقد الماضي نازحين، قرب قراهم ومدنهم من دون أن يتمكنوا من العودة إليها.مأساة السوريين في السنوات الماضية غابت عن التغطية الإعلامية. وبدا أن كثيرين نسوا بالفعل اليوم وجود نحو 5 ملايين نازح داخلي في البلاد، معظمهم في محافظة إدلب حيث عاش الملايين في الخيام، وباتوا يملكون اليوم فرصة للعودة إلى قراهم المدمرة على الأقل للإقامة في البيوت المهجورة التي لطالما قصفها جيش النظام وحلفاؤه بالبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية وغيرها من الأسلحة بحسب تقارير حقوقية موثقة، قبل أن تعاني تلك المدن والقرى من تعفيش جيش النظام لما تبقى فيها.
هذا الشاب اسمه "عثمان شحود تعتاع" وهو من كفرنبل ، كان طالب طب بشري و اعتقله النظام في عام 2013 مع 11 طالب طب بشري في حلب اليوم تحرر مع تحرير سجن حماة المركزي pic.twitter.com/RTtFydTFYO
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) December 5, 2024
وعلى مر السنوات انحرفت السردية السائدة في سوريا خصوصاً في الإعلام العالمي، من توصيف ما يجري في البلاد على أنه ثورة إلى كونه حرباً أهلية. حيث ساهم انتشار الجماعات الجهادية في تأطير إضافي للأزمة في البلاد على أنها تعيش حرباً ضد الإرهاب، خصوصاً في فترة بروز تنظيم "داعش". ورغم أن ذلك قد يكون صحيحاً ضمن سياق معين، إلا أن العنصر الحاسم هنا هو أن الحرب السورية أصلاً لم تكن حرباً ضد "داعش" وأخواته، بل كان تمدد الجهاديين في مساحات واسعة من سوريا، مرتبطاً بالصراع الأصلي في البلاد، أي الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، والتي تحولت إلى حرب أهلية وإقليمية ودولية، منذ لجوء النظام السوري إلى القوة في ردّه على التظاهرات السلمية.وكان نظام الأسد يراهن على النسيان والتشاؤم. وعمل مع حلفائه على ضخ سرديات بديلة شوهت معنى الثورة السورية كحركة شعبية طالبت بالحرية، عبر إطلاق صفة العمالة الخارجية أو الجهادية الإسلامية على المعارضين ككل، وحاولت أيضاً نسف التاريخ الدامي للتنصل من المسؤولية والبقاء في السلطة من أجل إبقاء الكابوس السوري مستمراً، مع الإشارة إلى أن النظام في السنوات التي احتفى فيها بنصره، لم يقدم أي تنازلات عن السلطة سواء للمعارضة الداخلية أو الحركات الجهادية أو المعارضة المعتدلة أو ما تبقى من الناشطين المدنيين بل نفذ حرفياً تهديده الذي لا يُنسى: "الأسد أو نحرق البلد"، في استمرار لما قامت عليه الدولة الأسدية في جوهرها منذ تأسيسها: "حكم البلاد بالإكراه".وإن كان الخوف من الجهاديين ومشروعهم مبرراً، إلا أن أخذ تلك الفكرة وتحويلها إلى شعار يحاكم السوريين على مشاعرهم تجاه نظام الأسد بوصفها تهمة، حتى من قبل معارضين، يعتبر نوعاً من الوصاية الفكرية والأخلاقية، وهو ما يلاحظ في منشورات تذم "النخبة السورية" في مواقع التواصل بوصفها منفصلة عن الواقع، كما أنه جدال يمكن عكسه مع إحساس صحافيين ومعارضين آخرين، في المنافي عموماً، بأنهم غير قادرين على التعبير عن خوفهم من نتيجة التغيرات العسكرية على الأرض بسبب الطبيعة الإسلاموية للفصائل الحالية المقاتلة ضد الأسد، ويلقى الطرفان تخويناً متبادلاً بالتالي.وفي السنوات الماضية، كان النزاع في سوريا مجمداً عبر الزمن. ولم يتم الوصول إلى حل لجوهر ذلك الصراع بل تعامل كثيرون مع بقاء الأسد في السلطة وتعويم رموز حكمه على أنه أمر واقع، خصوصاً بسبب الدعم الروسي والإيراني له. لكن ملايين السوريين داخل وخارج سوريا كانوا يكررون كل عام، خصوصاً عند إحياء ذكرى لحظات مفصلية في تاريخ الثورة السورية، على أن الثورة لم تمت ولن تموت قبل تحقيق أهدافها في الحرية من النظام المستبد. وكان الرد على أولئك يأتي عبر توصيفهم بالرومانسيين والحالمين، حتى من طرف معارضين أصيبوا بخيبة الأمل على مر السنين وباتوا يفضلون الحفاظ على سقف منخفض للآمال.
سجناء خرجوا من سجون "نظام بشار الاسد" ، السجين علي حسن العلي سجين لبناني في سجن حماه منذ 40 سنة ، وهذا الذي في المقطع منذ 33 سنة ، وما خفي كان أعظم #دمشق #حمص_تتحرر #حماة_تتحرر #سوريا_تتحرر #السويداء #لبنان pic.twitter.com/P6GxENbxax
— عيسى الزهراني (@esaa85632) December 6, 2024
والتغييرات السريعة هذا الأسبوع، جعلت الفرح والأمل رائجين. وهذه المشاعر ليست تأييداً لفكر الإسلاميين، بل هي رد فعل طبيعي لمن عاشوا القهر على يد النظام. والسوريون الذين يعبرون عن فرحتهم بسقوط مناطق من قبضة الأسد، لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع لدعم مشروع جهادي، بل يتعاملون مع الواقع كما هو. هم ببساطة يفرحون بلحظات تتيح لهم استعادة جزء مما فقدوه على مدار أكثر من عقد، ويتبنون نهجاً براغماتياً للتعامل مع مشكلاتهم خطوة بخطوة، لأن الحياة ليست خياراً بين الأبيض أو الأسود، بل تمتلئ بالمناطق الرمادية، خصوصاً في الحرب والسياسة.وعليه، تصبح مشكلة الحكم الإسلامي في حال حدوثها، مشكلة مستقبلية يتم التعامل معها لاحقاً، لأن الثورة كفكرة ليست فكرة "نظيفة" بالمطلق، ولا تحدث تغييراً وردياً فورياً، بقدر ما قد تكون فكرة فوضوية تقود إلى تغيير جيد في المستقبل البعيد. ويعني ذلك أن إسقاط نظام الأسد، مهما كان البديل، يوفر إمكانية لسوريا مختلفة قائمة على الحرية والكرامة بعد عقود، لكن إبقاءه أو تعويمه بطريقة أو بأخرى، من دون تفكيك بُنيته البوليسية، يعني الوقوع في دوامة من التكرار التي لا توصل إلى نتيجة. مع التذكير بأن النظام سعى جاهداً لأسلمة الثورة بإطلاقه سراح الجهاديين من السجون العام 2011، واعتقال واغتيال المفكرين والناشطين العلمانيين، لتقديم نفسه على أنه الخيار المتحضر في وجه الظلامية الإسلامية، وهو فخ لا يجب الوقوع فيه اليوم، بعد كل هذه السنوات.ولخص الصحافي السوري مصطفى الدباس المدافع عن الديموقراطية والذي احتفت به الأمم المتحدة قبل سنوات، كل ذلك بالقول عبر صفحته الشخصية في "فايسبوك": "بعد جولتين من نزوح عائلتي وآلاف العائلات، مرة من دمشق إلى إدلب، ومرة من إدلب إلى مخيمات النزوح في الشمال، لمدة 10 سنوات، من دون أن أرى أحداً يتعاطف ولو حتى معنوياً مع مأساتهم المستمرة وخسارتهم منزلهم، أرضهم، أشجارهم، فإن التحالف مع الشيطان أفضل من وجود بشار الشيطان وعائلته إذا كان الشيطان سيعيد عائلتي إلى منزلها".