سقط الأسد. ربما يحدث هذا في الوقت الفاصل بين كتابة هذه السطور ونشرها، ويمكن الجزم بمآله ما لم تحدث مفاجأة من العيار الثقيل جداً. بل يجوز القول إن مفاجأة من العيار الثقيل قد حدثت حقاً مع طلب موسكو من رعاياها المدنيين مغادرة سوريا، وكانت الصين قد سبقتها إلى ذلك، ثم مع التسريبات (المتعمدة على الأرجح) التي نشرتها وكالة بلومبيرغ، وفيها أن موسكو ليس لديها خطة لإنقاذ الأسد على غرار ما فعلته عام 2015.دخول الفصائل المهاجمة إلى حمص يعني الكثير في الميدان لجهة التقدم إلى دمشق، وحتى قبل الوصول إلى دمشق، لأن حمص عقدة استراتيجية تتقاطع عندها الخيوط السورية، وفقدانها معناه عزل الأسد في دمشق، خصوصاً بعدما قامت فصائل محلية في درعا والسويداء بتحرير معظمها من سيطرته، وقد لا تتأخر فصائل "نائمة" من الغوطة عن ملاقاتها. لذا، قد لا تكون نهاية الأسد بوصول الفصائل المهاجمة من الشمال إلى دمشق؛ قد يسبق السقوط وصولَها، وربما يكون مدبّراً برعاية خارجية، وقد يبقى بشار في طهران التي قيل أنه في زيارة إليها طالباً للدعم، بعد فوات الأوان حسبما تقول التطورات الميدانية.
يُستحسن في هذا السياق استبعاد السيناريو الذي يفترض أن الساحل هو آخر معقل للأسد في سوريا، وأنه سيتحصن فيه محاطاً بحماية طائفية "علوية". هذا السيناريو لن يكون ما لم يحظَ بغطاء دولي، أي أن حماية الأسد في الساحل ستكون دولية، مع اعتماد على الشبيحة المحليين الذين سيدافعون عن أنفسهم في المقام الأول، وهم ليسوا بالشريحة التي لها غطاء اجتماعي محترم. وحتى رامي مخلوف، الذي عاد إلى الظهور بتسجيل مصوّر بعد انقطاع مديد، استبعد ضمناً ابن عمته بشار الأسد بعدما انتقده، ليزكّي الضابط المعروف سهيل الحسن وكأنه البديل المنقذ.على الصعيد نفسه، سيكون مجافياً للواقع عدم ملاحظة التغييرات التي طرأت على المزاج الموالي عموماً، وعلى المزاج في الساحل لمن يشاء التخصيص. وكنا قد شهدنا قبل أكثر من سنة حالات فردية عبّر أصحابها عن غضبهم من الأسد، وعن يأسهم من إصلاحه هو وحاشيته في الحكم. تلك الأصوات هي تعبير عن نقمة أوسع تجاه بشار الأسد. وبالعودة إلى الوراء، كان جزء كبير من الدعم الذي ناله في الساحل له علاقة بالهالة التي ارتسمت لأبيه من قبل، والكثير من اللافتات المرفوعة هناك كانت تعبّر صراحة عن أن دعمه هو على سبيل الوفاء لأبيه.
بشار وأخوته، وأمثالهم من أولاد الجيل الانقلابي، هم أبناء العاصمة أكثر من كونهم أبناء الساحل، وينظرون باستعلاء "مديني" مكتسب إلى منابتهم الأصلية. وهذا معروف هناك. استثمار آل الأسد في الساحل هو استثمار الحرب، وقد انتهت كما نعلم إلى بقائه بعون حليفيه الإيراني ثم الروسي، ما جعله يعود إلى عدم اكتراثه بأولئك الذين استثمر بهم وقت الضرورة. في الخلاصة، إذا شئنا وصف المزاج الأكثر شيوعاً في الساحل فالتوق إلى الخلاص من حكم الأسد هو الرائج مع مسحة من التوجّس إزاء المستقبل، وهو ما يُعبَّر عنه في الجلسات الخاصة، وغالباً بتجرؤ لم يكن وارداً في السابق.التوق إلى الخلاص يكاد يكون السمة التي توحّد معظم السوريين، على اختلاف سلطات الأمر الواقع التي تتقاسمهم، لأنهم جميعاً أُنهكوا بالبؤس الذي لاقوه خلال السنوات الأخيرة، وإذا أمكن الحديث حتى الآن عن الكثير مما يفرّقهم، فإن ما يوحّدهم هو يأس كل مجموعة من سلطة الأمر الواقع التي تحكمها. من وجهة النظر هذه، صار السوريون بمعظمهم أقرب إلى تقبّل التغيير، ولو أن استعدادهم الحالي أتى جراء ثمن باهظ جداً.
الأهم أن تقبّل فكرة التغيير اخترق الحدود القديمة التي رسمها اندلاع الثورة، بين ثورة وموالاة، فقلة من الذين كانوا موالين في عام 2011 حافظت على الولاء القديم، وبمبرراته القديمة. وفي المقابل، تراجع الكثير من الآمال التي كانت معقودة على الثورة، إذ حطّمها العنف الذي استُخدم ضدها من قبل الأسد وحلفائه، ثم العنف الذي استُخدم ضدها من فصائل ادّعت الانتساب إليها. والأصحّ القول إن هذه الفصائل تندرج في إطار الحرب المركّبة في سوريا وعليها، وحتى تشجيعها من قبل كثر محكوم بالرغبة في إسقاط الأسد، من دون أن يستتبع تفويضاً لها بالحكم بعدما جُرِّبت فيه ضمن أماكن سيطرتها.وإذا عُزي انهيار قوات النظام إلى غياب الدعم الخارجي الروسي والإيراني، وهذا صحيح، فإن العامل الآخر شديد الأهمية هو ربط الانهيار بانعدام الحافز للدفاع عنه. ولئن تحرّك الحدث السوري الحالي، محمولاً على إرادات خارجية، فإن قوى الخارج تدرك جيداً أن الأسد فقد التأييد داخلياً، بالتوازي مع فشله في تلبية مطالب الراغبين دولياً أو إقليمياً بالتطبيع معه. سيكون السوريون متأخرين عن الخارج ما لم ينتبهوا إلى هذا جيداً، وما لم ينتبهوا تالياً إلى ما هو مشترك بينهم، من دون مبالغة تنص على أنهم صاروا متحدين.
لقد سقطت خطوط التماس القديمة، العسكرية منها والسياسية قبل العسكرية. وسقوط الأسد الذي حدث بموجب التطورات الميدانية الأخيرة، حيث لم يبرز أي مظهر موالٍ يُعتد به للدفاع عنه، يشير إلى وجوب التفكير في اليوم التالي. وسقوط الأسد يعني فيما يعنيه انتهاء الثورة التي يتشبّث البعض بالقول إنها لا تزال موجودة، وأيضاً انتهاء الحرب التي لن تكون مبرراتها قائمة مع استكمال سقوطه.يُفترض بالوضعية الجديدة أن تنهي الاصطفافات القديمة، سواء ما تعلّق منها بالثورة أو بالحرب. ومن نافل القول أن الصراع في سوريا لن ينتهي مع سقوط الأسد، والمأمول أن يتخذ الصراع المسارَ السياسي السلمي، وأن يُحتكم إلى الآليات الديموقراطية. على ذلك من المتوقع، بل من شبه المؤكد أن تبرز تحالفات من نوع مغاير لتحالفات الثورة أو تحالفات الحرب، وبعبارة أخرى، ستنتهي تحالفات الضرورة والاستثناء لتبدأ تحالفات معبّرة عن نوع مختلف من المصالح، تحالفات أكثر ديمومة بطبيعتها.
إن فهماً رحباً لمعنى سقوط الأسد هو المدخل الأوسع والأنسب لاستهلال المرحلة الجديدة، من دون حمل أثقال الماضي القريب والتي لن يكون لها مفعول سوى إعاقة المضي إلى اليوم التالي؛ أيضاً وفق الدلالات الأعمق التي تجعل اليوم التالي يستحق هذه التسمية. ولا مبالغة في القول أن فهماً رحباً من هذا القبيل هو ما يؤسس لمصالحة كبرى يحتاج السوريون حدوثها عن اقتناع، ومن المؤسف أن اليأس من التغيير حال دونهم والتفكير في المستقبل؛ المستقبل الذي أتى مباغتاً رغم طول الانتظار!