تجنب قتال العدو بكل ما تستطيع، لأنك لا تعرف المآلات، فإذا لقيته فاثبت! - حكمة عربية قديمة -كثرٌ لم يصدقوا في البداية أنّ أمين عام "حزب الله"، السيد حسن نصرالله، صاحب الكاريزما العالية، قد غاب عن المشهد اليومي السياسي والشعبي اللبناني.
كثرٌ بل الأغلب الأعم من قادة الأحزاب والرؤساء والطامحين لدخول العمل السياسي كانوا يتطلّعون لكسب دعم أو رضى هذا القائد اللبناني الذي لعب دور ناظم الحياة السياسية في لبنان بعد الخروج السوري الذي أعقب صدور القرار ١٥٥٩ واغتيال الرئيس رفيق الحريري ومن سبقه ومن لحقه على امتداد فترة زمنية شهدت اغتيالات سياسية قاسية ومتواصلة ارتبطت بشكل أو بآخر بالنظام السوري و"حزب الله".
بعد حرب تموز ٢٠٠٦، وبعد واقعة البارجة التي احترقت في وسط البحر بإشارة منه، لمع نجم نصرالله عربياً من تونس إلى مصر والعراق، ومن نافلة القول في فلسطين وسوريا ولبنان أيضاً.
وبعد واقعة خيمتيْ شبعا في شهر حزيران ٢٠٢٣، وتوسل الإسرائيليين كافة الطرق الديبلوماسية من أجل إزالتهما، حيث رفع الحزب إحداهما في آب وأبقى على الثانية، ظنّ كثر إنّ الاسرائيليين يخشون جدياً قوّة ردع "حزب الله"، وإلا لم يزيلوا الخيمتيْن القماشيتيْن اللتيْن لا تحويان أشياء مهمة بالقوّة.
لقد لعب الرجل، على مدى عقود ثلاث، أكبر دور في الحياة السياسية اللبنانية وكان الأكثر حضوراً وتأثيراً. بل تجاوز حضوره لبنان ليصبح طرفاً في أي نقاش حول العراق قبل وبعد سقوط النظام فيه، وسوريا بعد انطلاق الثورة فيها، واليمن بعد سطوع نجم الحوثيين، وصولاً إلى فلسطين وتبنيه تسليح حركتيْ "الجهاد" و"حماس" فيها. وفي خطاباته، كان يتناول نصرالله مسائل تُعنى بالإقليم كلّه من السعودية والإمارات إلى ايران وتركيا، وكان الجميع هنا وهناك ينصتون لما يقول ويبنون على أقواله خططاً واستراتيجيات.
بدا حزب الله في أوج قوته تحت قيادة نصرالله، حيث حاز قدرات صاروخية متطورة وطائرات بدون طيار، وخاض حروباً إقليمية عززت من خبرته وزادت من عداواته، فصار بحدّ ذاته أحد صنّاع القرار في الإقليم. تفوّق حزب الله بعداواته على إيران، الدولة التي ترعى تنظيمه وتسلّحه وتمولّه، فباتت دول بذاتها تقيم أفضل العلاقات مع طهران وتلاحق أي عنصر انتمى إلى "حزب الله".٧ تشرين الأول وحرب الإسنادقد يكون الشهيد يحيى السنوار قد أساء تقدير الموقف الاسرائيلي بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023، وقد يكون خيار خوض هذه العملية برأيه الفرصة الوحيدة لإعادة فلسطين إلى المسرح الكوني بعدما غابت قضيّتها وكادت تضمحل، إلاّ أنّ "حزب الله" أساء بدوره تقدير الاستعدادات والقدرات الإسرائيلية التي تطوّرت بشكل كبير على مرّ السنوات وتترجمت بخروقات مرعبة في قلب تنظيم "حزب الله".
انضم "حزب الله" إلى المعركة تضامناً مع "حماس" متوقعاً حرباً قصيرة قد تمنحه دفعة سياسية، لكنه أخطأ في قراءة مزاج إسرائيل التي قرّرت الرد بقوة على الجبهتيْن الشمالية والجنوبية. وكما بدا، كان استعدادها العسكري والاستخباري لجبهتها مع الحزب أكثر جهوزية بما لا يقاس مع غزة. وهذا ما نتج عنه إضعاف "حزب الله" بشكل كبير عبر استهداف قيادات الصف الأوّل والثاني والثالث، وشن هجمات مكثّفة على بنيته التحتية منذ واقعة "البايجرز" والاغتيالات المتواصلة، وضرب مواقع الأسلحة والأنفاق، وتدمير آلاف المنازل وصولاً إلى تهجير مئات الآلاف من اللبنانيين. لكنّ الحرب أثرت أيضاً في صورة الحزب وكشفت ضعف بروتوكولات الأمن الداخلي فيه، وأدّت إلى انكشافه الاستخباري أمام عدو عمل خلال أكثر من خمسة عشر عاماً على الاستعداد لتلك اللحظة.
خلق غياب نصرالله فراغاً قيادياً صعباً يُخشى أن يتعزّز مع مرور الوقت، إذ يقارن بعض مؤيدي المقاومة في لبنان سحره بسحر جمال عبدالناصر ويقولون إنّ أحداً في التاريخ الحديث لم يمتلك هذه الكاريزما النادرة لدى القيادات. فالرجل كان ذا تأثير استثنائي ومن الصعب أن يتمكّن خلفاؤه من ضخ الزخم الذي فقدته روح الحزب مع غيابه، كما لا يمكن إغفال التحديات الكبيرة التي ستواجهها قيادة الحزب الجديدة لجهة إعادة إحياء روح المقاومة وإعادة بناء رأي عام عريض داعم داخلياً في الوقت الذي تعمد فيه قيادات وقوى متعددة معارضة للحزب إلى شنّ هجوم سياسي مركّز بسبب تكاليف الحرب وتداعياتها.بين الهزيمة والنصر القول بانتصار الحزب في معركته الأخيرة لا يستقيم، فقد حقّق الإسرائيلي تقدماً كبيراً بالنقاط وأحرز أهدافاً قاتلة. وقد توقّف هذا التقدّم فور دخوله الحرب البرية، اذ واجه مقاومة عاتية لم تتأثر بالفقد الكبير للقيادات ولا لتدمير مخازن أسلحة وصواريخ، فالفرد في "حزب الله" شديد القناعة بأحقية مواجهته العدو وبقدراته على إيذائه بشكل كبير، وهذا ما ساهم مساهمة كبرى في الوصول إلى اتفاق وقف النار. وهذه العقيدة ثبّتها نصرالله لدى محازبيه ومريديه خلال فترة توليه الطويلة للأمانة العامة. وقد ظهرت قدرته على زرع العقيدة وعلى ضبط ساحته في آن واحد.
وعليه، عدم الانتصار لم يعنِ الهزيمة، خاصة وأنّ من يقف إلى جانب القضية الفلسطينية يُعتبر أخلاقياً وسياساً وإنسانياً نبيلاً وشهماً، وهذا ما يُحسب له وليس عليه.
ما غاب عن السيد حسن نصرالله ورفاقه أنّ شركاءَه في الوطن لم يكونوا مقتنعين بحرب الإسناد التي خاضها. ولو كان اللبنانيون كافة اختاروا الانحياز المطلق إلى جانب الحق الفلسطيني، غير أنّ كثراً منهم لم يجدوا أنّ المواجهة العسكرية هي السبيل الأسلم لذلك، خاصة أنّ لبنان يعاني أزمات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، بما في ذلك الفشل في انتخاب رئيس منذ عام 2022 والانهيار الاقتصادي المستمر منذ عام 2019. فالحروب بنظرهم، وهم محقون، ليست نزهة وقرار خوضها يحتاج لتأمين أوسع إجماع أو حدّ أقصى من الاقتناع بأحقيّتها.
صحيح أنّ الإسرائيلي لم يتمتّع يوماً بالنبل أو الأخلاق والشبع، بل اتّصف بالجشع والدناءة والإجرام وأُضيف النفاق وعدم الالتزام بالوعود في حقبة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، بإجماع قلّ نظيره من أصدقاء إسرائيل قبل اعدائها لكن مواجهته ليست محكومة حصراً بالمقاومة المسلّحة، ولا يمكن أن تكون كذلك. فقد أثبتت جنوب أفريقيا أنّ إسنادها للقضية الفلسطينية ولغزة كان أشدّ وقعاً من إسناد "حزب الله" العسكري، فقد نجحت مرّتيْن، الأولى عبر مطالبة محكمة العدل الدولية، إسرائيل بالالتزام بحماية المدنيين، وهو ما لم تفعله إسرائيل بالتأكيد، والثانية، عبر قيادة تحركات ساهمت في صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالنت.
من نافلة القول إنّ مقارنة بلد كلبنان تقع فلسطين على حدوده الجنوبية، لا تستقيم مع جنوب أفريقيا لكن المقاومة المسلّحة تحتاج إلى بيئة مؤاتية ما كانت متوفرة خلال حرب الإسناد وما تلاها. احتساب الخطوات كما الإعداد سمتان من سمات تحقيق الهدف، والحرب مع إسرائيل مستمرة طالما أنّها تغتصب الأرض والحقوق.
نصرالله سيبقى لعقود قائداً فذاً ومقاوماً شرساً لإسرائيل المعتدية والمحتلة التي مارست إجراماً غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية في غزة. وإسرائيل الدولة الوحيدة في العالم القائمة على الاستيطان وعلى الفصل العنصري. ستظلّ صورة نصرالله تظلّل كلّ مقاومة ضد إسرائيل حتى استعادة حق الشعب الفلسطيني، وسيبقى قائداً لأهل الجنوب والبقاع والضاحية النوّارة الذين عانوا من العربدة الاسرائيلية والاحتلال لعقود.
ولعل المرحلة التي دخلنا فيها اليوم مع وقف إطلاق النار، هي مرحلة فحص النوايا ومحاولة تطبيق القرار الدولي ١٧٠١ على الرغم من أنّ إسرائيل لم تطبّق أياً من القرارات الأممية، فعلى رغم ادعائها تطبيق القرار ٤٢٥، ما زال جزء عزيز من أرض لبنان محتلاً ويوضع على همة المفاوض اللبناني في الأيام والشهور المقبلة.
وحتى تتحسن مناعة البلاد وتستعيد عافيتها ولحمة أبنائها قدر الإمكان، قد يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في صيغة مختلفة لإدارة مقاومة اسرائيل مدخلها بناء دولة قوية عادلة واسعة الصداقات ومحصنة بوحدة أبنائها الخاضعين للقانون وطبقة سياسية تحترم الدستور وتطبقه بدل تجاوزه في كلّ وقت وحين. لقد اتضح لكلّ ذي بصر وبصيرة أنّ أحداً لم ينجح في بناء دولة موازية في لبنان وأنّ مصير الدول الموازية إلى أفول. ليكن دم نصرالله سبيلًا لعودة الاحتضان الوطني وانخراط الجميع في تسوية تنتج بلداً نستحقه ويستحقنا.