تُعيد روسيا جمع أوراقها للتأسيس لمرحلة جديدة منتظرة بالترافق مع استلام دونالد ترامب للسلطة في البيت الأبيض، في 20 كانون الثاني/يناير 2025. في بعض هذه الأوراق، ما يمكن تسميته "كنوز سياسية" مهمة يمكن استثمارها، وفي بعضها الآخر تحديات جديدة، قد تفرض عليها بعض التنازلات المؤلمة.
من الواضح أن المحيط القريب من أوكرانيا بدا في وضعية مرتبكة قبل وصول ترامب، ذلك أن بعض المقاربات الأوروبية تختلف جذرياً مع رؤية الإدارة الأميركية الجديدة، وهؤلاء يخافون من الراديكالية الترامبية فيما يتعلَّق بالعلاقة مع القارة الحليفة، ومن الواضح أن ترامب يرغب بتحميل الأوروبيين أعباء مالية إضافية في مسيرة الشراكة الأمنية والعسكرية، خصوصاً طلبه منهم زيادة مساهمتهم في موازنة حلف شمالي الأطلس "ناتو" الذي يجمعهم منذ أيام الحرب الباردة.
وتبرز في هذا السياق خصوصاً، حركة الدبلوماسية الألمانية، كونها الأقرب الى ساحة التوتر الأوكرانية، وهو ما عبرت عنه وزيرة خارجية برلين أنالينا بيربوك إبان زيارتها إلى الصين نهاية الشهر الماضي، وهي قالت حرفياً أنها "تبحث في عملية البدء بمسيرة التسوية للأزمة الأوكرانية"، وكلامها جاء بعد اتصال المستشار أولاف شولتس بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبطبيعة الحال فإن ذلك لا يمكن أن يقع مكان رضىً عند الإدارة الأميركية، وتستفيد منه روسيا على كلِ حال.
ويمكن إدراج ما حصل في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الرومانية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، من ضمن التغييرات التي تحصل وهي في صالح التوجهات الروسية، حيث حلَّ كالين جورجيسكو المؤيد لروسيا في المرتبة الأولى، وقد يحالفه الحظ في الدورة الثانية في 8 الحالي. وجورجيسكو أعلن أنه سيمنع أي دعم عن أوكرانيا؛ مباشرةً او عبر أراضي بلاده. والاتجاه الأوروبي الذي استجاب لطلب الرئيس جو بايدن بالسماح لأوكرانيا استخدام صواريخ بعيدة المدى ضد روسيا، يتهيَّب الموقف الجديد، وبدأت بعض الحكومات تُعيد النظر في العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها ضد روسيا، لأن الشركات الأوروبية هي المُتضرر الأول منها، وأكثر من روسيا التي نفذت من مخاطر الانهيار الاقتصادي، وحققت نمواً واضحاً لصادراتها نحو الشرق والجنوب.
أما فيما يتعلَّق بتطورات الشرق الأوسط، لا سيما العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين واللبنانيين، فقد لجأت موسكو الى اعتماد براغماتية سياسية وعسكرية مكَّنتها من النفاذ من الإحراجات المترافقة مع الحدث الكبير، وهي خرجت حتى الآن من دون خسائر مهمة، فحافظت على علاقاتها المتميزة مع بعض الدول العربية ومع تركيا وايران وإسرائيل، وتعمل بجهد واضح على الحفاظ على امتيازاتها الاستراتيجية في سوريا، وسط احتدام المعارك، بصرف النظر عن النتائج المرتقبة وغير الواضحة لهذه المعارك حتى الآن. فالنظام الذي لم يرتاح لمنسوب الدعم الروسي في مواجهة قوات المعارضة التي حققت انتصارات كبيرة عليه، لا يستطيع الخروج من تحت عباءتها إذا نفذ من الهزيمة، وأي بديل عن هذا النظام يحتاج لموسكو لإرساء استقرار مستقبلي في البلاد، أو لتوفير أرضية مناسبة لتسوية لحظها القرار الأممي 2254. حتى أن الشركاء الدوليين في الصراع السوري، لا يمكنهم تجاهل الدور الروسي، ولا القفز فوق مصالحها الاستراتيجية التاريخية.
يمكن اعتبار ملف العلاقات الروسية-الإيرانية بأنه الأصعب من بين التحديات التي تواجه موسكو، ذلك أن طهران غير مُقتنعة بعدم قدرة القوات الروسية على التدخُل لوقف زحف قوات المعارضة السورية على مناطق نفوذها في سوريا ـ وتحديداً في حلب ومحيطها وفي حمص ومحيطها – بينما يُلقي المدونون الروس على صفحات التواصل الاجتماعي، المسؤولية عن هذه الهزائم على الجيش السوري، ويتهمون ضباطه بالفساد وعدم الجدية.
وبين روسيا وإيران نقاط متعددة للتعاون الاستراتيجي لا يمكن التضحية بها من أجل نظام (أو حزب)، مهما كانت أهميته، خصوصاً لأن العمل في الممر البحري والبري الذي يربط بين مدينة سان بطرسبورغ في أقصى الشمال الروسي، وميناء بندر عباس الإيراني على الخليج العربي عبر بحر قزوين، انتهى، وسيتم تدشينه قريباً، كما أن التعاون في مجال التسليح وصناعة التجهيزات العسكرية؛ قائمة على قدمٍ وساق بين البلدين.
ولا بد من الإشارة الى أن إيران بذاتها تبدو مُنكفئة عن المواجهة الشرسة في سوريا، برغم أنها المستهدف الأول من ما يحصل، وهي طلبت من رئيس النظام بشار الأسد تقديم طلب لمعونة عسكرية، لكي تقوم طهران بالتدخل العسكري، وهي تعرف أن النظام السوري لا يمكنه الإقدام على هذه الخطوة، كما أن النظام ربما يفكر بأنه يستفيد من ضعف الحرس الثوري الايراني على الساحة السورية، من دون أن يكون ذلك بمساهمة منه، وإيران عادةً لا تحتاج إلى إذن للتدخل العسكري في سوريا، وهي تفعل ذلك منذ أكثر من عشر سنوات من دون أي طلب.
من المؤكد أن روسيا تتجاهل بعض ما يجري في سوريا، او أنها لا تتعامل مع الميدان العسكري بذات الوثيرة التي تعاملت فيها بالعام 2015، وأنقذت النظام من اندثار مؤكد في حينها، كما أنها تبحث عن مقاربات جديدة في العلاقة مع محيط أوكرانيا، وليس بالضرورة أن تكون هذه المقاربات قاسية كما كانت عليه في السنوات الثلاث الماضية.