في العام 1982، غادرتُ دمشق مع د.سالم سليمان الحسني الذي كان طالباً في كلية الطب بجامعة دمشق، إلى اللاذقية، بغية الانطلاق من مينائها إلى قبرص. مررنا كالعادة بمحاذاة مدينة حماة، وحين وصلنا إلى المنطقة المتاخمة للمدينة، رأينا سحب الدخان الكثيف يتطاير ويتطاول فيالقَ وأرتالًا جرّاء حرائق قصفٍ لا نعرف مصدره، وهل هو قصف طيران حربي أو قاذفات أرضية ومدافع أو زلزال ضرب المدينة وأشعل بها النيران التي تلتهم الأحياء والبشر والعمران... ولم نجرؤ على سؤال السائق الذي لاذ بصمت جنائزي، مهللاً ومكبّراً بهمس، كأنما يخاطب ربّه الأعلى عز وجل في سرّه. ذهبنا في طريقنا حتى وصلنا ميناء اللاذقية وذهبنا إلى محلات بيع التذاكر فوجدنا الباخرة التي تزمع على السفر وفق المكتوب إلى قبرص، وقفنا في الطابور أخذنا التذاكر وإلى الباخرة التي أقلعت مباشرة تمخر عباب المتوسط. لا أتذكر المسافة إلى قبرص التي ذهبت إليها أكثر من مرة من اللاذقية غالباً، أو من مرفأ بيروت. لكني حين وَقَفتْ في الميناء الصغير للمدينة التي أعلنوا النزول فيها، سألت أحد العاملين هل هذه المدينة في قبرص؟ رد عليَّ بالإيجاب، وكانت مشروعية السؤال حين لاحظت أن هذه المدينة هي ليست نيقوسيا أو ليماسول أو لارنكا التي زرتها سابقاً. حين نزلنا في الفندق الوحيد بشاطئه الجبلي الصغير، اكتشفنا أنها قبرص التركية التي فصلها الأتراك عن عموم قبرص التي تتحدث اليونانية والعامرة بالحركة والحياة. كانت قبرص التركية هكذا شبه مهجورة إلا من بعض سياح أتراك، سمعت أنها تحولت لاحقاً إلى منطقة سياحية تعج بالزوار والكازينوهات والترفيه. تكيفنا مع معطيات خطئنا، وطاب لنا المقام وهدوء الطبيعة والطعام الطازج. بعد تسعة أيام، عدنا عبر الطريق نفسه، لكن الطريق الذي كان يحاذي مدينة حماة قد غيره الجيش السوري إلى طريق أبعد. وحين وصلنا دمشق، لم يخبرنا أحد من الزملاء العُمانيين أو غيرهم عما يحصل في حماة، وما كان يحدث في دمشق من اضطرابات تشمل اغتيالات لمسؤولين وتفجيرات لبعض المقرات الحساسة بشكل متفرق وصامت. ذهبت إلى الصالحية للقاء البعض في "مطعم الريّس" المطل على الميدان، جلست إلى طاولة الأصدقاء وغير بعيد كانت الطاولة التي يتقدم زبائنها الشاعر شوقي البغدادي الذي رحل أخيراً عن عمر يناهز القرن العشرين. سمعت عمو شوقي يقول: نحن الآن نجلس هكذا مثل كل يوم، نشرب ونأكل ونتحدث ثم نذهب إلى المنازل، وعلى مقربة كيلومترات في حماة تُرتَكَبُ مجازر لا نعرف مدى حجمها وفظاعتها.انتشرت أخبار حماة الدموية حين أوعز حافظ الأسد لأخيه رفعت الأسد، قائد سرايا الدفاع المخيفة، بالتعامل الحربي مع المدينة، فقصفت بالطيران الذي لم يهدأ جحيمه لأسبوعين وراح ضحيته عشرات الآلاف وأحياء بكاملها تحولت ببشرها وعمرانها إلى حطام وأنقاض وسط صمت عربي ودولي عجيب ومخزٍ. فقد كان النظام قد رتب أوضاعه مع المافيات النافذة في السياسات الدولية الإعلامية، بما فيها مافيا الدولة الصهيونية التي تمتلك الجبهة الأطول حدوداً مع سوريا ولم تنطلق منها رصاصة ولو على سبيل الطيش والخطأ، منذ اعتلاء الأسد الأب قمة السلطة المطلقة إثر انقلابه.ولا أنسى ذلك اليوم الذي وقف فيه حافظ الأسد وسط الحشود المتظاهرة في حلب، محمولاً على أكتاف جنوده، متوسلاً بمَسكنةٍ "أنا فلاح وابن فلاح وواحد منكم". وحين هدأ غضب الحشود، أمر بقصف المدينة وإذلالها، وكذلك حمص. واستمرت مسيرة التدمير والإذلال إلى أقصاها، لكن أمل السوريين بأن تنجلي وترحل كوابيس التاريخ السوداء بالغة القتامة، كان حاضراً ومتداولاً، وإلا ستتناسل جيلاً بعد آخر. وطالما في السياق السوري، أتذكر ذلك الرجل السوري الذي جاوَرنا في مقعد الطائرة ذات المَراوح الذاهبة من دمشق إلى بلغاريا، وكان ذاهباً لزيارة ولده الطالب هناك. كان الحديث في السياسة طوال الرحلة، وأتذكر جملته الحصيفة "معظم الوضع العربي بحاجة إلى حلاقة". قالها بالقاف، فعرفت أنه درزي أو علوي، وتبين لاحقاً من خلال الأصدقاء في بلغاريا أنه من تنظيم المكتب السياسي الذي انشق عن الحزب الشيوعي البكداشي ويتزعمه أسطورة النضال الوطني رياض الترك الذي قضى في معتقلات النظام بمراحله المختلفة أكثر مما قضى نيلسون مانديلا في سجون النظام الجنوب إفريقي العنصري.رحل الترك بعدما عايش حراك الشعب السوري في غوطة دمشق وغيرها، بين خطرين، خطر النظام وخطر التطرف الإسلاموي، لكنه نجا ورحل أخيراً وهو في تسعينياته. وكان المعسكر الاشتراكي آنذاك والاتحاد السوڤياتي ما زالا على قدم وساق، وإن بدت ملامح أولى للوهن ونذر المستقبل الذي لم يكن بعيداً. منذ شباط/فبراير 1982، حدث حماة الرهيب، مرت خمسة وأربعون عاماً. أزمنة معاناة وحشية مكدسة في الذاكرة والساحات، في المقاهي والمنافي، في مخيمات النزوح الاقتلاعي بعرائها الفاجر الذي تربّت في جحيمه أجيال، سواعدها تشتد في النسيان، وفق عبارة لمحمود درويش في ملحمته "تل الزعتر".(*) مدونة نشرها الشاعر العُماني سيف الرحبي في "إكس".