لم يتم البت بعد بمقترح تعديل قانون النقد والتسليف، بعدما دخل هذا الموضوع في سجالات ومكائد أبعدت النقاش عن الأهداف الأساسيّة لهذا المسار. قبيل جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، ثارت زوبعة من البيانات والتصريحات، التي أوحت بارتباط هذه التعديلات بإشكاليّة الودائع الراهنة. وكان أبرزها البيان الذي نتج عن الاجتماع الذي عُقد في مكتب وزير المهجّرين عصام شرف الدين مع بعض مجموعات المودعين، والذي طالب بـ "رفض أي اقتراح او مشروع قانون يرمي إلى تعديل قانون النقد والتسليف راهناً، والتزام نصوصه ومواده التي تحمي حقوق المودعين". البيان نفسه، طالب الحكومة بـ "حل أزمة المودعين بدلاً من إلهائهم بتعديلات لا تخدم حقهم المقدس في استعادة ودائعهم".
في التعديلات المطروحة إشكاليّة واضحة، تتمثّل في عدم شمولها أي تعديلات جذريّة على هيكليّة مصرف لبنان، أو موقع الحاكميّة فيها. أي بعبارة أوضح، لم تكن التعديلات شاملة وعميقة بالقدر المطلوب، ولو أنّها تضمنت تحسينات ملموسة على الإطار الإداري القائم في مصرف لبنان. لكن وبخلاف كل ما أشيع، لا ترتبط أي من التعديلات المطروحة بمسألة الودائع وحقوق المودعين، وبمسارات توزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار المصرفي الأخير. بل إنّ هدف مناقشة قانون النقد والتسليف، هو عدم تكرار هذه الأزمة مرّة أخرى، وعدم تكرار المخالفات التي جرت في مصرف لبنان على مرّ السنوات الماضية.نص التعديلات المطروحاتأبرز التعديلات المطروحة، في الجانب النقدي لعمل مصرف لبنان، ترتبط بوجهة استعمال توظيفات المصارف لديه. المقترح الحالي ينص على حصر الودائع التي يمكن لمصرف لبنان استقبالها بالليرة اللبنانيّة فقط، لقاء فوائد يحددها المصرف، وهو ما يحظر تلقّي أي توظيفات أو ودائع بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان. أما الاحتياطات الإلزاميّة، بالليرة اللبنانيّة أو الدولار الأميركي، فيقتضي فصلها عن سائر حسابات وتوظيفات وودائع مصرف لبنان، وإبرازها بشكل واضح ومستقل في الميزانيّة التي ينشرها المصرف.
وهذا التعديل، كما هو واضح، يهدف أولًا إلى الحؤول دون تكرار سيناريو تبديد التوظيفات بالعملة الصعبة لدى مصرف لبنان، في عمليّاته النقديّة، وهو ما يمكن أن يولّد "فجوة" لا يمكن التعامل معها بالعملات الأجنبيّة. أمّا التوظيفات بالليرة اللبنانيّة، فيمكن لمصرف لبنان التعامل معها ضمن إطار سياسته النقديّة، بوصفه الجهة التي تمتلك صلاحيّة خلق النقد. وفي الوقت نفسه، يسمح هذا التعديل، إذا تم إقراره، بقدر أعلى من الشفافيّة بما يخص الوضعيّة الماليّة للمصرف المركزي، طالما أنّه مكلّف بإظهار الاحتياطات الإلزاميّة بالعملات الأجنبيّة بشكل واضح ومستقل عن سائر بنود الميزانيّة.
في مكانٍ آخر، وبما يتكامل مع تلك التعديلات، سيكون على المصرف المركزي حصر تسليفاته للدولة اللبنانيّة بشروط أوضح، ومنها على سبيل المثال عدم تعدّي قيمة هذه التسليفات الـ 5% من متوسّط واردات الموازنة العاديّة في السنوات الثلاث الأخيرة. كما تنص التعديلات على عدم إمكانيّة تجاوز هذه التسليفات الـ 5 أشهر. وفي مطلق الأحوال، لا يمكن أن يتم هذا التمويل إلا من أموال المصرف الخاصّة، وبما لا يتخطّى نسبة الـ 50% من رصيد هذه الأموال، بناءً على آخر ميزانيّة مدقّقة ومعتمدة من قبل المصرف.الرقابة على مصرف لبنانفي نصوص التعديلات، سيتم استحداث جهاز رقابي جديد في مصرف لبنان، على شكل هيئة تدقيق داخليّة مستقلّة عن الإدارة التنفيذيّة للمصرف، للتأكّد من تقيّد المصرف بالقوانين وقواعد السلوك. وهذه الهيئة يفترض أن ترعى المسائل المرتبطة بسلامة البيانات الماليّة والضبط الداخلي، والتنسيق مع مفوضي الرقابة الخارجيين. وكما هو معلوم، يمثّل هذا التعديل نقلة مهمّة في عمليّة الرقابة المستقلّة على المصرف، التي كانت تقتصر سابقًا على مفوضيّة الحكومة لدى المصرف المركزي، وتدقيقها السنوي للميزانيّات.في التعديلات نفسها، ثمّة نصوص توضّح مواصفات تعيين الحاكم ونوّابه، وشروط تضارب المصالح، كما ثمّة نصوص توضّح الموجبات المتعلّقة بنشر المحاضر والقرارات. كما تنص التعديلات على بنود تشدّد على السياسات والقواعد المحاسبيّة، وهو ما يفترض أن يقيّد الحاكم في عمليّة إعداد الميزانيّة الخاصّة بالمصرف.في المقابل، تنص التعديلات على إلغاء اللجنة الاستشاريّة في المصرف، التي لم تملك سابقًا أي صلاحيّات يمكن أن تقيّد الحاكميّة في القرارات اليوميّة. فيما سيتم استحداث لجنتين: الأولى لإدارة السياسة النقديّة، والثانية لإدارة المخاطر. وهذا ما يفترض أن يزيد من القيود المتعلّقة بالقرارات والتعاميم النقديّة والمصرفيّة. وأخيرًا، تنص التعديلات على الانتقال إلى سعر صرف مرن لليرة اللبنانيّة، وفق قواعد العرض والطلب، عوضًا عن ربط هذه القيمة بالذهب كما كان الحال سابقًا.
في جميع الحالات، وكما أشرنا سابقًا، لم تتمكّن تلك التعديلات من المسّ بجوهر الصلاحيّات الممنوحة لحاكم مصرف لبنان، بوصفه رئيسًا للمجلس المركزي والهيئة المصرفيّة العليا وهيئة التحقيق الخاصّة وهيئة الأسواق الماليّة في الوقت نفسه، وهو ما يمثّل تضارب المصالح الذي تسعى التعديلات للتخلّص منه. ورغم الإيجابيّة التي تعكسها التعديلات، من ناحية تشديد الرقابة على أعمال المصرف المركزي، لا يبدو أن المطروح حاليًا يمثّل إعادة هيكلة إداريّة جديّة في بنية المصرف، كما كان متوقّعًا. أمّا الحديث عن ارتباط التعديلات بمسألة الودائع، فليس دقيقًا، كما هو واضح.