المشاهد الآتية من سوريا، دخول الفصائل إلى المدن وفتح السجون ولقاءات الأهل المتباعدين منذ زمن، ردود الأفعال على كل هذا، والتكهنات والتلاسنات والشائعات، والحديث عن انشقاقات وترجيحات بلا أساس بخصوص انقلاب قصر في دمشق.. كل هذا يبدو وكأننا عشناه من قبل، وكأننا أمام حالة "ديجافو" سياسي. ليس في سوريا وحدها، بل وفي لبنان أيضاً. ألا تبدو بعض من تفاصيل حرب الشهور الماضية وكأنها استعاده لحرب 2006، وإن كان بنتائج مغايرة. وفي غزة، وفي المنطقة بأكملها، ألا تبدو وكأن بعض المشاهد هي هي. لا يتعلق الأمر بدائرية التاريخ بمعناه الخلدوني، ولا بتكراره لنفسه بحسب ماركس، سواء كانت عودته مأساة أو ملهاة بحسب الترتيب في دوائر التكرار.بالطبع ما نعاينه اليوم في سوريا وسياقه يختلف جذرياً عن 2011 وعن ما قبل 2016، وذلك بعد الأخذ في الحسبان ما جرى العقد ونيف من الحرب الأهلية الكبرى ومكملاتها من حروب أهلية صغيرة. فيها تم فض التحالفات وعقدها عشرات المرات، وتغيرت الخرائط وتزحزت حدود تقسيم دوائر النفوذ، وتبدلت ولاءات أمراء الحرب على الرقعة السورية، تلك المفتتة مئة قطعة تصغر وتكبر. جبهة النصرة لم تعد جبهة النصرة، وبات مقاتلوها يرتدون زياً مموهاً شبه موحد على شاكلة الجيوش النظامية، اللحى الطويلة أصبحت لحى مشذبة، والنظام في دمشق لم يعد نفسه. في لبنان وفي غزة وفي غيرهما، تتوحش آلة العنف الإسرائيلي كما لم يحدث من قبل وبتواطؤ غربي غير مسبوق. كل تلك المعطيات تخبرنا إننا لسنا أمام الحدث نفسه. لكن ومع هذا، تظل الخيارات محدودة ومتطابقة بين السيئ والأسوأ. وهذا ما يدفعنا للاقتناع بأننا واقعون تحت "وهم سبق الرؤية" (الديجافو)، كل ما يحدث الآن رأيناه من قبل، هو نفسه لا ما يشبهه.على مستوى فردي، يُعتقد أن الديجافو خلل إدراكي، حيث يتصادم تياران من الوعي، وينتج عن هذا ذاكرة هي بالضرورة زائفة. على مستوى جماعي، يبدو الديجافو السياسي اختلال في تدفق الزمن أو في مفهوم الزمن نفسه وتقسيماته، فتصير الذاكرة تذكراً للحاضر. ثمة تفسير يذهب إلى أن كل ذاكرة هي ذاكرة للحاضر وفي الحاضر، وبالتالي فالديجافو هو عودة بالذاكرة إلى أصلها. بهذا المعنى، هناك حاضران: الحاضر المدرك بالحواس والحاضر الكامن في الذاكرة. وهكذا يكون الديجافو تطابقاً استثنائياً وعرضياً للحاضرين. لا ينطبق هذا التفسير على حالتنا. خرج الأمر من دائرة الاستثناء إلى حكم الرتابة. فواقعنا السياسي صار في جزء منه يشبه ديجافو لديجافو سابق، أو بمعنى آخر سلسلة لا متناهية من الحواضر الزائفة.في كتابه "الديجافو ونهاية التاريخ"، يخبرنا الفيلسوف الإيطالي باولو فيرنو أن الديجافو أحد العلامات الباثولوجية المميزة لزمننا كله، هو إعلان عن نهاية تاريخ نقدية على الضد من نهاية التاريخ بمفهومها الفوكويامي الانتصاري المغرق في سذاجته.
نرى تلك الظاهرة في كل مكان، حتى في مركز الإمبراطورية، تبدو الانتخابات الأخيرة في واشنطن وكأنها حدثت من قبل، ولكن باستبدال هيلاري كلينتون بكاميلا هاريس. الديجافو السياسي المعاصر يعطي إيحاء بأن المستقبل مغلق، فنحن معلقين في الحاضر، وتحديداً في الحاضر بصفته ماضياً مستمراً أو تورماً للذاكرة. جزء من المعضلة يكمن في الميديا الكثيفة وخلقها حاضراً أبدياً، حيث يقود التعرض المفرط لتزامن الذاكرة والإدراك إلى إدراك زائف للحاضر باعتباره لحظة حدثت بالفعل من قبل. أما أثقل ما يميز الديجافو السياسي كما نختبره اليوم في منطقتنا هو عجزنا أمام الحدث. فبدلاً من التصدي له، تنحصر معايشتنا له على محاولة تذكره والاستسلام الذاهل أمام قدرية ما نظنه تكراراً للماضي بحذافيره.